التراث في مواجهة تغيّر المناخ: قراءة في واقع قرطاج التونسية

ثقافة 05-11-2025 | 04:48

التراث في مواجهة تغيّر المناخ: قراءة في واقع قرطاج التونسية

تمتد قرطاج عبر العصور رغم هزيمتها أمام الرومان؛ فهل تصمد هذه المرة أمام التغيرات المناخية؟
التراث في مواجهة تغيّر المناخ: قراءة في واقع قرطاج التونسية
جانب من حمامات أنطونيوس في قرطاج. (أ ف ب)
Smaller Bigger

اليوم لن نكتب عن قرطاح المسرح، الذي يسطع بفضله نجوم ونجمات الفنون من العالم، ولا عن سرديّة علّيسة ولا عن المدينة السياحيّة التي تشكّل قبلة السائح منذ لحظة نزوله مطار تونس قرطاج الدولي.

إنّنا نكتب عن قرطاج التي تجاوزت حدود وظائفها التقليديّة وحدود التاريخ لتبني لنفسها سرديّة مارقة عن السرديّات السائدة حول قوّتها البحرية والعسكرية والتي أدّت دوراً مهماً في البحر الأبيض المتوسط.

وسنتجاوز أيضاً السرديات المرتبطة بهزيمتها أمام الرومان، لنقف أمام قرطاج المعلم الأثري العالمي المسجّل ضمن التراث العالمي منذ عام 1979، والذي سيحتفل بعد أربع سنوات بمرور نصف قرن على تسجيله وهو ذاته المعلم الذي صمد لعقدين إلى اليوم أمام التّغيرات المناخيّة، منذ تحذيرات اليونسكو الأولى من مخاطرها عام 2005.

 

جانب من حمامات أنطونيوس في قرطاج. (أ ف ب)
جانب من حمامات أنطونيوس في قرطاج. (أ ف ب)

 

"عدوة قرطاج الثانية"
بعيداً عن تنبؤات الصحافة الدولية التي تعتقد في أن التّغيرات المناخية "عدوة" قرطاج الثانية بعد الرومان الذين دمروها عام 146 قبل الميلاد، نسأل: ماهي الأسباب الموضوعية والعلمية التي تجعل من هذا المعلم بمختلف مكوّناته  صامداً رغم التهديدات المناخية؟  وكيف تجيب عن ذلك مديرة المتاحف التونسية والأستاذة الجامعية المتخصّصة في الآثار هاجر الكريمي؟

قبل الخوض في مسألة المعلم الأثري قرطاج والذي بدأ يثير تسأؤلات صحفيّة دوليّة حول إمكانات صموده، لنتوقّف عند تشخيص مستوى خطورة تأثيرات التغيرات على التراث الثقافي العالمي إلى اليوم والتحركات الدولية القائمة في الغرض.

كما أشرنا، تعود تحذيرات اليونسكو الأولى من التأثيرات السلبية إلى عام 2005، لأنّ تزايد ارتفاع الحرارة يؤدّي إلى الكوارث البيئية مثل الأعاصير والفيضانات  والحرائق والجفاف، وهو ما يؤدّي إلى ارتفاع مستوى البحر الذي يتسبب في تآكل المعالم الساحلية، ما يشكل تهديداً مباشراً للتراث الثقافي. وقد كان تحذيرها يشمل كلّ المعالم مع تفاوت درجات التأثير. بل إنّه رؤية استشرافيّة للمستقبل لوضع خطة استبقائية أمام أزمة بيئية عالمية صار مستعصياً السيطرة عليها.

وكانت اليونسكو قد عرضت القضية عام 2007 ، أمام لجنة التراث الدولية من خلال تقرير بعنوان "التنبؤ وإدارة آثار تغيّر المناخ على التراث العالمي". وبناءً عليه، بدأت التحرّكات الدولية تدريجياً في اتجاه التوصل إلى اتفاق لحماية هذه المعالم وكان علينا أن ننتظر عشر سنوات أخرى، إلى حدود 2015، وتحديداً في المؤتمر الدولي باريس، لتوقيع اتفاقية دولية توافق على إدراج مسألة التراث الثقافي العالمي ضمن أهداف التنمية المستدامة 2030 وانطلق العمل رسمياً بها عام 2017. 
إلّا أنّ مجلّة "Nature Climate Change" اقتصرت في دراستها لعام 2022 على السواحل الأفريقية وكأنها المعنية الوحيدة بالتغيرات المناخية، وعنونتها بـ"مواقع التراث الأفريقية المعرّضة لخطر الفيضانات الساحلية والتآكل في ظلّ تغيّر المناخ".

مخاطر التغيرات المناخية
رصدت المجلة 284 موقعاً للتراث الثقافي والطبيعي على امتداد الساحل الأفريقي الذي يبلغ طوله 300 ألف كيلومتر. وانتهت الدراسة إلى أنّ  56 موقعاً (20 في المئة) يواجهون خطر الفيضانات الساحلية والتعرية؛ ومن المتوقّع أن يرتفع هذا العدد إلى أكثر من 190 موقعاً بحلول عام 2050 إذا استمرّ انبعاث الغازات الدفيئة. وكان المعلم الأثري قرطاج من بين المعالم الذي أتت عليها الدراسة. وللتذكير، أُدرج قرطاج ضمن قائمة التراث العالمي عام 1979 بتعريف من اليونسكو كالتالي: "تأسّست قرطاج في القرن التاسع قبل الميلاد عند خليج تونس ثم تحولت ابتداءً من القرن السادس إلى امبراطورية تجارية شغلت جزءاً كبيراً من منطقة البحر المتوسط وشكلت مركزاً تجارياً لحضارة ساطعة. كما أنّها احتلّت أراضي من روما خلال الحروب البونيقية، لكن هذه الأخيرة قضت عليها نهائياً عام 146 قبل الميلاد فقامت على أنقاضها قرطاج ثانية رومانية". 

إنّ إشكاليّة تأثيرات المناخ على التراث الثقافي العالمي إشكالية دولية تشمل مواقع عدّة قد تكون قرطاج المعلم الأقلّ تأثّراً فيها رغم توجّه الصحافة الدولية الى الاستشهاد بتصريح مدير  بعثة التنقيب الأثرية لجامعة "سابينزا" في روما لورينزو نيغرو، والذي قال إنّ "هذه الآثار (قرطاج) تتعرّض لمخاطر التغيرات المناخية مع مرور الوقت".

 

جانب من حمامات أنطونيوس في قرطاج. (أ ف ب)
جانب من حمامات أنطونيوس في قرطاج. (أ ف ب)

 

من جانبها، ذكرت مديرة إدارة المتاحف في الإدارة العامة للتراث في وزارة الشؤون الثقافية هاجر الكريمي أنّ "موقع قرطاج قبل كلّ شي هو حمام روماني أو بالأحرى محطة استشفائية إمبراطورية يعود إلى القرن الثاني ميلادي"، وشرحت لـ"النهار" أنّه "بُني خصيصاً على الشاطئ لكي يستفيد المستحمّون من المنافع الصحية لمياه البحر. وقد بناه معماريون لهم دراية بالمخاطر التي يشكّلها القرب من البحر وتهديدات الرطوبة والرياح وزحف الأمواج".

ووفق الكريمي، "عندما نتأمّل في بنيته وفي المواد التي استُعملت من حجر صلب ورخام وأجر صلب وكذلك تقنيات التهوئة والتخلص من الرطوبة والمياه الرائدة نفهم مدى صلابة هذا المعلم".

"مثال خاطئ"
بُنيت حمامات أنطونيوس من الحجر الرملي الصدفي، والكذّال (الحجر الجيري) المستجلب من حمام الأنف (مدينة تونسية)، والحجر الجيري الصلب من جبل الجلود، والغرانيت الأحمر والرمادي من إيطاليا، والرخام الأبيض من بنتيليكا وبروكونيزي، والرخام السيبوليني من أوبويا، والرخام الأصفر من شمتو، والحجر الإسفنجي والحمم البركانيّة من صقلية، والمرمر من جبل الوسط.

 

جانب من حمامات أنطونيوس في قرطاج. (أ ف ب)
جانب من حمامات أنطونيوس في قرطاج. (أ ف ب)

 

ولفتت الكريمي أنّ "اختيار حمامات انطونيوس كمثال على التهديدات المناخية لموقع قرطاج يعتبر مثالاً خاطئاً، نظراً لأنّ قرطاج هو الموقع الأقلّ خطورة مقارنة بمواقع أخرى في تونس وفي العالم وهو يقع في نقطة جغرافية مرتفعة وهي هضبة بيرصة غير المهدّدة، والبعيدة عن مخاطرة ارتفاع الأمواج".

كذلك، تؤكّد البحوث العلمية أنّ موقع قرطاج على هضبة يوفّر التهوئة وقدرة إضافيّة في التحكم بالرطوبة وحماية - ولو جزئية - من الفيضانات. كما تؤكّد أهمية تركيبة الأرض الجيولوجيّة، إذ إنّ التربة الصخرية والرملية المختلطة تسمح بالتصريف الطبيعي للمياه، ومن ثمّ التقليص من حدّة المخاطر؛ ولا يفوتنا الدور الذي قد تؤدّيه الصّخور المحيطة، والتي تحمي الموقع من التعرية والرياح، بالإضافة إلى دور الغابات والنباتات الساحلية المحيطة بالموقع في تقليل انجراف التربة.
وقد دعت الكريمي إلى "ضرورة التمييز بين التآكل والتهرئة التي تحدث بفعل الزمن في معالم يفوق تاريخها الألفي عام وبين تأثيرات التغيرات المناخية"، وتشرح أنّ "المواد التي بُني بها المعلم هي مواد طبيعية بحتة تتأثّر بطول الزمن وتتآكل".

وأشارت في السياق إلى أنّ المعالم: "تتطلّب ترميمات دقيقة ودورية إلاّ أنّ وجودها مهملة طيلة قرون قبل اكتشافها والعناية بها أثّر عليها وتسبّب في اندثار أجزاء منها واهتراء أجزاء أخرى". وبيّنت الكريمي أنّ "حمامات انطونيوس في قرطاج هي في حالة أفضل من بعض المواقع الأخرى البعيدة عن البحر والتي هي في مأمن من تهديدات التغيرات المناخية".

وأكّدت أنّ "قرطاج لن تندثر وتبقى آثارها شاهدة على أنّها كانت أكبر قوة اقتصادية عسكرية في المتوسط وفي العالم القديم لأنها صاحب أول دستور في العالم، وقد خسرت معركة ولم تسقط ثقافياً وحضارياً وجغرافياً".

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/4/2025 6:56:00 PM
شقيق الضحية: "كان زوجها يمسك دبوسا ويغزها في فمها ولسانها كي لا تتمكن من تناول الطعام".
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."
لبنان 11/3/2025 11:23:00 PM
الفيديو أثار ضجة وغضباً بين الناشطين، حيث اعتبر كثيرون أن استخدام الهواتف والإضاءة الساطعة داخل هذا المعلم السياحي يؤثر على السياح هناك.
لبنان 11/4/2025 8:47:00 AM
دعت هيئة قضاء جبيل القوى الأمنية المختصة إلى التحرّك الفوري واتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة الفاعلين