قراءة في أغنية "نتفة عتم": تجربة وجود تامة
ليليان يمين
أغنية «نتفة عتم» للشاعر ماهر يمّين ليست مجرّد نص غنائي، بل تجربة وجودية مكثّفة. يخرج فيها الصوت من منطقة ما بعد الألم، من مرحلة لم يعد فيها الحزن حدثًا عابرًا، بل حالة وجود.
نبض النص يقوم على التوازي بين الجرح والزمن: «بكبر أنا وجرحي معي بيكبر» هنا يتماهى النمو مع التآكل، في معادلةٍ على فرادة كبيرة تختصر فلسفة الإنسان الممزق بين البقاء والفقد.
يرافق النص إحساس عبثي صامت يوشي بعمق تجربة وثقافة هذا الشاعر الشاب، إذ تتحوّل الحياة إلى سلسلة خسارات متكرّرة: «وحروب خلف حروب عم بخسر» الذات لم تعد تحارب لتنتصر، بل لأنّ الحرب صارت شكل العيش نفسه ويذهب بك السؤال ترى ما الذي عرفه ماهر فقذف به إلى تلك الأرض الممزوجة بتراب الحقيقة ومطر المواجهة؟ لا تسأل وليس مهماً هنا أن تعرف طالما أنّ القلم جعلك تصدّق.
وفي مقابل هذا الخراب، تلوح ومضة صغيرة من الأمل «نتفة عتم». والمفارقة أنّ العنوان لا يتحدث عن "نور"، بل عن الظلمة نفسها ولكن بحجمٍ قابلٍ لاحتمال الضوء. إنها فلسفة دقيقة: ليس النور هو الخلاص، بل التخفّف من ثقل الظلام.
لغة ماهر يمّين بسيطة ظاهريًا لكنها محمّلة بعُمق شعوري وفكري. كل جملة قصيرة، محكمة، تقطع مثل نَفَس متعب. هذه الجمل لا تشرح الواقع، بل تجسّده:
«وبعيش العمر عَ حفِّة الأيام» صورة الحدّ الفاصل بين الحياة والعدم.
ويختم الشاعر قصيدته، «وبكون مطرح ما الحزن بيكون كترة ما فيّي غياب ما عم ضلّ» تصل الذات إلى لحظة انمحاء تام؛ الغياب يغدو كينونة. هذه النهاية ليست استسلامًا، بل وعيًا مأساويًا بحدود الوجود الإنساني، شبيه بما نجده في الشعر الوجودي الحديث.
«نتفة عتم» بهذا المعنى هي نشيد شخص أدرك عبث المعركة، لكن ما زال يحمل حلمًا صغيرًا بأن يرى أبناءه النور، ولو من خلال ظلمةٍ أخفّ."وبقول بكرا بوّرت ولادي نتفة عتم تَ يقشعو الأحلام".
يتقدّم صوت أميمة الخليل في "نتفة عتم" كجسرٍ بين النصّ والمستمع.
صوتها الملتصق بفضاء الصمت، المقيم عند حافةٍ لا تبهرك بل تنهبك، يجعلك تُصغي أكثر ممّا تسمع. إنّه صوتٌ يعرف الألم، لكنه لا يصرخ به، بل يتركه يتسرّب بين أنفاس الأداء. تُدخلنا أميمة بصوتها القصيدة من بابها الواسع نقرأها روحًا لا كلمات. حين تغنّي «الوقت عندي بحرقو عادي»، يتشظّى الزمن ويغدو اللحن رمادًا دافئًا على أطراف الذاكرة. صوت أميرة يطلع من حكايا الجنّ والأساطير ويرمي بخصلاته من أعلى البرج وأنت تنادي إرمِي يا أميمة خصلات صوتك الجميل فيصير الحلم ممكنًا.
أمّا الملحّن هاني سبليني الذي جعل ما نشعر به ملموسًا؛ كان المبدع الذي صاغ الموجة الشعوريّة بين الكلمة والصوت، فصار اللحن امتدادًا طبيعيًا للكلمة، لا مرافقة لها.
بفضل هذا التكوين الثلاثي -الكلمة، الصوت، اللحن- تحوّلت «نتفة عتم» من أغنية إلى تجربة وجودٍ تامّة، تُصغي فيها الحياة إلى نفسها في أكثر لحظاتها هشاشة وصدقًا.
نبض