مصر تتحدّث عن نفسها والعالم يرى ويسمع

ثقافة 31-10-2025 | 06:00

مصر تتحدّث عن نفسها والعالم يرى ويسمع

لم يسبق للقاهرة أن عرفت متحفاً بتلك الضخامة ولا حجم ما به من آثار وكنوز.
مصر تتحدّث عن نفسها والعالم يرى ويسمع
مشهد من المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)
Smaller Bigger

يصعب فهم القاهرة ذات الألف مئذنة والألف عام، بهذا الاسم المشحون بالعزة حسبما أطلقه عليها الفاطميون.

لكن عاصمة مصر لا تبدأ بالفاطميين بل تعود إلى آلاف السنين قبلهم حيث أضاف إليها الحكام دائماً جزءاً تلو آخر، ينسب فسطاطها (مصر القديمة) إلى عمرو بن العاص، وقلعتها الحصينة إلى صلاح الدين، قبل أن تتمدد شمالاً مع أسرة محمد علي لتولد القاهرة الخديوية (وسط البلد الآن) وهناك على البر الغربي للنيل نشأت الجيزة رئة للقاهرة تحتضن الأهرام آخر عجائب الدنيا السبع غير بعيد عن "منف" عاصمة مصر القديمة.

تبدو القاهرة مثل قلب نابض عملاق ظل يتمدد ليربط دلتا مصر بصعيدها، بينما ينشطر النيل الخالد على أعتابها إلى مصبّي رشيد ودمياط.

سحر السنين
يطلق الصعايدة والفلّاحون على "القاهرة" اسم "مصر" وهو تعبير مجازي يقصد "الجزء" ويعبّر عنه بالكل تبجيلاً لتاريخها العتيق، ولأنّ بها قوة مصر الكامنة وسحرها ونضالها عبر آلاف السنين.
فالقاهرة - بمفهومها الثقافي وليس الإداري - ليست عاصمة عادية بل مدينة لا تنام، تسكنها القصص والأحلام وملايين البشر.

 

مشهد من المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)
مشهد من المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)

 

هي متحف هائل مفتوح على الأبدية تتجاور فيه أضرحة الأولياء ومساجد آل البيت والأزهر الشريف مع الكنائس العتيقة وأهرام ملوك الدولة القديمة. ودائماً كانت القاهرة مشدودة إلى المَدْيَنة والتحضر، جاذبة للعلماء والمفكرين والفنانين من إمحوتب مهندس هرم زوسر إلى أم كلثوم مطربة القرن العشرين. ومن فلاح إهناسيا الفصيح إلى نجيب محفوظ ابن القاهرة الفاطمية وكاتبها الفصيح.

تشييد المتاحف
إن القاهرة كتاب مفتوح على مر الزمان مهما أُوتي الإنسان من عمر فلن يقدر على قراءة سطوره وأسراره. من ثم آمن حكامها دائماً بأهمية تمدينها مهما مرّت بمنعطفات حرجة.
ومع إدراك الباشا محمد علي وخلفائه خطورة نهب آثار مصر انشغلوا بتشييد متاحف تكون أوعية حافظة لما يُعثر عليه من آثار منذ الحملة الفرنسية إلى مصر. فمنذ القرن التاسع عشر عرفت القاهرة متاحف كثيرة، منها المتحف القبطي في مصر القديمة ضمن منطقة "مجمع الأديان" وهي متحف مفتوح يضم أيضاً كنيسة مار جرجس ومسجد عمرو بن العاص وكنيساً يهودياً.

وأنشأت الأسرة الخديوية المتحف الإسلامي ثم كان درة التاج متحف التحرير الذي افتتح عام 1902.

روح الكبرياء
في عام 2002 طرح وزير الثقافة المصري آنذاك فاروق حسني مشروع تطوير متحف التحرير بعدما تحول إلى مخزن لا يتسع لكنوز الحضارة المصرية ولا تسمح أروقته باستيعاب ملايين الزوار.

وبينما كانت الحكومة تبني عاصمتها الإدارية الجديدة في أقصى شرق القاهرة، كانت تستكمل تشييد المتحف الحلم في أقصى الغرب، على بعد أمتار من الأهرام وأبي الهول. وفي المسافة بينهما أنشأت متحف الحضارات الذي يضمّ غرفة المومياوات الملكية وهي أثر إنساني لا مثيل له في العالم.

 

مشهد من المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)
مشهد من المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)

 

في العاصمة الإدارية الجديدة، تمدّدت القاهرة عمرانياً على نحو غير مسبوق، ثم أتى متحفها الكبير – ربما الأكبر في العالم كله بمساحة 300  ألف متر مربع – ليعبّر عن كبرياء الماضي والمستقبل معاً.

لم يسبق للقاهرة أن عرفت متحفاً بتلك الضخامة ولا حجم ما به من آثار وكنوز منها مجموعة توت عنخ آمون الفريدة وبرغم حداثة عمارته لكنه ظل وفيّاً في تصميمه لروح الحضارة المصرية القديمة.

في كل ما يشيد المصريون لا تخفى روح الكبرياء والفخر القومي والاستقلال الوطني لا فرق هنا بين مسلة حتشبسوت وبرج عبد الناصر. فالرسالة السياسية هنا تؤكد أن مصر لا تنكسر ولا تنطلي عليها الفوضى الخلاقة التي نشطت منذ أحداث الربيع العربي وإنما هي كل لا يتجزأ يُلهم ماضيها العظيم مستقبلها الآتي.

سردية عشرة آلاف عام
لا تخفى أيضاً الرسالة الاقتصادية في القدرة على البناء والتشييد واستيعاب ملايين السياح وتطوير بقعة فريدة يعود تاريخها إلى قرابة خمسة آلاف عام. والمتحف في المقام الأول هو رسالة ثقافية لصون التراث والاعتزاز به ضد جماعات متشددة كثيراً ما نظرت إلى تلك المنحوتات باعتبارها أصناماً، وعمّمت نموذجاً سيئاً عن ملوك مصر العظام.

فكثيراً ما حارب هؤلاء تراث مصر وهويتها وخصوصيتها الثقافية، وتعرّضت منشآت ثقافية مهمة – منها المتحف المصري – لأحداث نهب وتخريب وسرقة إبان أحداث يناير وما تلاها. بل أفتى دعاة متشدّدون وقتها بضرورة هدم الآثار بما فيها الأهرام و"طمس التماثيل" وإباحة بيعها!
إنفاذاً لتلك الرؤية المتشدّدة، وضع مجهولون نقاباً على تمثال أم كلثوم الشهير في المنصورة، وهي كناية عن محاربة الثقافة والهويّة والإبداع، بزعم تحريم التماثيل والغناء أيضاً!

 

مشهد من المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)
مشهد من المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)

 

إن تربّص المتشددين بالحضارة المصرية ليس بالجديد، توازياً مع تربّصهم بالمفكرين والمبدعين أمثال أم كلثوم وطه حسين ونجيب محفوظ لأنهم يسعون إلى تأسيس وعي بديل، ينظر باحتقار إلى الماضي ويحرّمه، مثلما يسخر من الحاضر ويجرّمه. وهي مفارقة هزلية وبائسة، أنّ من لا يملك سردية متماسكة يرغب في هدم سردية عميقة الجذور وممتدة منذ عشرة آلاف عام!

زمنها الأبدي
مهما كانت العثرات كان لدى القاهرة ما تستطيع أن تدافع به عن وجودها. امتلكت دوماً اللسان والبلاغة كي تتحدث عن نفسها فيسمع العالم ويبصر.
مهما انكسرت في حروب أو تحت وطأة الضغوط الاقتصادية فإن وعيها لقصتها الفريدة يبقى حاضراً، فما آلاف المآذن وأبراج الكنائس والمسلات ومتحفها الكبير إلا تعبيرات قديمة متجددة عن كبريائها الذاتي، وزمنها الأبدي.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/31/2025 2:00:00 PM
أشقاء الشرع.. مسؤولان بارزان في الحكومة وثالث "معاقَب"
شمال إفريقيا 10/31/2025 9:38:00 PM
 مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار ينص على أن تتمتع الصحراء الغربية بحكم ذاتي تحت سيادة المغرب
ثقافة 10/30/2025 10:50:00 PM
بعد صراع طويل مع المرض...
اقتصاد وأعمال 10/31/2025 4:25:00 AM
استقرّ مؤشر الدولار بالقرب من أعلى مستوياته في ثلاثة أشهر مقابل العملات الأخرى ما يجعل الذهب أكثر تكلفة بالنسبة لحائزي العملات الأخرى.