عدسة محمد الفالح: تصوير الشّعوب رسالة ودرس في الإنسانيّة
 
                                    نادته الوجوه بتفاصيلها الدقيقة، وألهمته القصص التي تحملها كل ابتسامة وعين، فتعلّم كيف يقرأ اللحظة ويجمدها بعدسته. الكاميرا لم تكن مجرد أداة تصوير بالنسبة للمصور السعودي محمد الفالح، بل كانت بوابة أدخلته عالماً من النضج والفهم العميق للحياة، عالماً مليئاً بالعادات والتقاليد التي رآها عن قرب في رحلاته حول العالم. من شوارع المدن الصاخبة إلى القرى الهادئة، عايش الفالح لحظات من التحدي والإبداع، وسمحت له عدسته بأن يلتقط تفاصيل قد تغيب عن أعين الآخرين. في هذه المقابلة الخاصة مع "النهار"، يفتح لنا الفالح قلبه ليحكي عن أبرز محطات حياته وتجربته الفريدة في عالم التصوير، وكيف شكّلت كل لقطة جزءاً من رحلته الشخصية والمهنية.
*كيف كانت بدايتك مع التصوير، وما الذي دفعك لاختيار توثيق حياة الشعوب تحديداً؟
- البداية  كانت توثيق الذكريات وحبس اللحظات، ثم اتسعت هذه البداية  لأن تكون أكثر من مجرد توثيق بل لصنع أثر وسرد قصة، وهذا ناتج من التجربة، تجرب ثم تستمتع ثم تستمر  فتكون البداية من حبس مشهد غروب إلى سرد قصة، أما اختيار توثيق حياة الشعوب فهو نتيجة رحلة الاكتشاف. خضت مجالات مختلفة من التصوير  من الطبيعة إلى المدن، لكن  شيئاً ما كان يناديني في الوجوة،  في التفاصيل الصغيرة في حياة الناس، ومع الوقت أدركت أن تصوير حياة الشعوب ليس مجرد صورة بل حكاية ورسالة وروح...  ومن هنا  يبدأ التخصص.
*ما أبرز محطة أثرت فيك خلال رحلتك التصويرية؟ 
 - كل محطة تصوير تغير فيّ وتجعلني أكثر نضجاً  وأكثر احتراماً لنفسي وللعادات والتقاليد والآديان وللنعمة، فكل مكان يحمل قصة وكل شعب يعكس جانباً من الجمال والتحدي في الحياة. بعض الدول تعلمت منها معنى الصبر وسط الفقر  وفي أخرى عرفت قيمة النظام والاحترام، أما في أماكن مختلفة فقد ألهمتني بساطة العيش، كل رحلة كانت مرآة أرى فيها شيئاً جديداً  عن نفسي  وعن الإنسانية. ولذلك لا أستطيع أن أختزل الأثر بمدينة أو دولة واحدة لأن كل محطة في الطريق ساهمت في تشكيل نظرتي للحياة والناس وغيرت فيّ. 
*ما التحديات الثقافية أو الإنسانية التي واجهتها أثناء سفرك؟
- في البداية  الحضور دائماً يكون إنسانياً قبل أن يكون بصرياً، والوضع الإنساني من أصعب التحديات. فمواجهة الفقر، المرض، أو المعاناة وجهاً لوجه قد تكون عبئاً نفسياً  وقد يُنظر إلى التصوير كتهديد أو تدخل في الخصوصية، والحل غالباً يكون بالابتسامة، الحوار البسيط، أو إشراكهم في رؤية الصورة بعد التقاطها.
*برأيك ما لعناصر الأساسية لالتقاط صورة قادرة على رواية قصة؟ 
- التقاط صورة تحكي قصة ليس مجرد ضغط زر، بل هو مزيج من وعي المصور بالعناصر البصرية والإنسانية. القصة تبدأ باختيار موضوع قوي وواضح، سواء كان إنساناً، لحظة عاطفية، أو مشهداً يحمل دلالة.
وأهم العناصر برأيي عنصران مهمان: فهمك لتكوين الصورة وقراءتك الجيدة للضوء. 
إذا اجتمعت هذه المعرفه، يكون إنتاج الصور مختلفاً ثم تأتي الرؤية العاطفية،  الابتسامة، والنظرة، وحركة اليد… كلها تنقل مشاعر تجعل المتلقي أكثر تفاعلاً.
*حدثنا عن أصعب موقف ميداني مررت به، وكيف انعكس على تجربتك؟ 
- أصعب موقف ميداني مررت به كان في جبال الهملايا، بعد رحلة هايكنغ استمرت ستة أيام في أعماق الطبيعة الوعرة. فجأة، دهمتني وعكة صحية شديدة، في وقتٍ اجتمعت فيه العزلة الجغرافية مع عاصفة ثلجية قطعت سبل العودة. وجدت نفسي طريح الفراش ثلاثة أيام، في كوخ بسيط عند عائلة نيبالية لم أعرفها من قبل، لكنها عاملتني كأحد أبنائها. عالجتني بما تملك من أعشاب دافئة، وشوربة العدس. في تلك العزلة، بين ضعف الجسد ودفء القلوب، فهمت المعنى الحقيقي لـ"الإنسانية بلا لغة". تجاوزت المحنة ليس بقوتي، بل برحمة الآخرين وبساطتهم. كانت تجربة مؤلمة جسدياً، لكنها نحتت في داخلي درساً لا يُنسى. 
*كيف تفرّّق بين الصورة التي توثق حدثاً عابراً وتلك التي تحمل رسالة إنسانية أعمق؟
- الصورة التوثيقية حدث عابر تسجيل لحظة كما هي تعتمد على الزمان، وقيمتها الأساسية المعلومة أن الصورة الإنسانية أعمق في تحريك المشاعر وطرح أسئلة أبعد من الحدث نفسه، ويكون تركيزها الأعلى على التفاصيل الإنسانية نظرات، تفاعلاً، معاناة أو أملاً، والصور الإنسانية غالباً ما تستدعي التعاطف.
*قبل السفر أو التصوير في مكان جديد ما أهم النحضيرات التي تقوم بها؟ 
- مهما كانت الرحلة ، أؤمن بأن التسلّح بالمعرفة هو الأساس. قبل أن ألتقط الكاميرا أو أحزم حقيبتي، أبدأ دائماً بالبحث: ما طبيعة المكان؟ كيف هو الطقس؟ ما تضاريسه؟ ماذا أحتاج؟ وماذا يمكن الاستغناء عنه؟ 
المعرفة المسبقة ليست ترفاً، بل ضرورة تحميك من المفاجآت، وتمنحك مساحة للتفاعل بوعي مع البيئة والناس. أما من الناحية الجسدية، فاللياقة البدنية هي العمود الفقري لأي رحلة ناجحة. كلما كان الجسد مستعداً، أصبحت الرحلة أخف، وأكثر تركيزاً على التجربة لا على التحديات.
*ما الرسالة التي تطمح الى أن تتركها صورك للأجيال المقبلة؟ 
- أن تبقى الصور شاهدة على حياة الناس، عاداتهم، فرحهم ومعاناتهم. بحيث لو اختفت الكلمات أو ضاعت السجلات، تظل الصورة دليلاً حياً يقول: "هكذا عاشوا… وهكذا كنا".
 
     
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             نبض
                                                                        نبض
                                                                     
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                