عندما زار الأكاديمي الأميركي من أصل أفريقي تا-نهِسي كوتس الأراضي الفلسطينية المحتلة، وجدها "تجسد الغرب وتناقضاته ومزاعمه بالديموقراطية وأسسه القائمة على الاستغلال". وثَّق كوتس وقائع زيارته تلك في الجزء الرابع والأخير من كتابه "الرسالة" الصادر بالإنكليزية عام 2024، والذي صدرت، قبل أيام، ترجمته إلى العربية بتوقيع نهى مصطفى (دار "الكتب خان" - القاهرة).

هذا الجزء الذي يشغل الحيز الأكبر من الكتاب، جاء تحت عنوان "الحلم العملاق"، في إشارة إلى ما يسعى إليه الإسرائيليون، على حساب الفلسطينيين. أما عنوان الكتاب ككل، فيشير إلى رسالة هؤلاء إلى أولئك ومفادها: "ستكونون أفضل حالاً في مكان آخر".

يندرج الكتاب عموماً تحت تصنيف "أدب الرحلات"، وفيه كذلك محطات من السيرة المهنية والعائلية لصاحب كتب "النضال الجميل"، و"كنا لثماني سنوات في السلطة"، و"بين العالم وبيني"، الذي فاز بالجائزة الوطنية للكتاب عام 2015. وفي كتاب "الرسالة"، يتنقل كوتس، المعروف بكتاباته المؤثرة حول العِرْق والهوية والتاريخ، بين ثلاث محطات: السنغال، حيث توجد أصول أسلافه الذين استعبدهم البيض في أميركا، وكارولينا الجنوبية، حيث مُنع تدريس أحد كتبه، لأنه يظهر حقائق لا ينبغي أن يعلمها الطلاب حمايةً لهم من "المفاهيم المثيرة للانقسام"، وفلسطين، حيث لا تزال تُمارَس أبشع سياسات الفصل العنصري. وفي تلك المحطات كان كوتس يبحث في كيف تُستخدم السرديات لتبرير الظلم وإخفاء المعاناة، وكيف يمكن للقصص أن تكون أداة للنجاة، أو للهيمنة.

الترجمة العربية للكتاب. (دار “الكتب خان“)

يشغل كوتس حالياً منصب أستاذ كرسي ستيرلينغ براون في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة هوارد، وهي إحدى جامعات السود التاريخية في واشنطن، أسّسها الضابط والمؤرخ الأميركي أوليفر هوارد عام 1867، متحدياً الممارسات العنصرية تجاه الطلاب والأكاديميين السود. وفي صيف العام 2022 طُلِب من كوتس المولود في بالتيمور عام 1975، تدريس مادة الكتابة في الجامعة نفسها، علماً أنه يعمل كذلك مراسلاً لمجلة "ذا أتلانتيك"، وهو ناشط معروف في مجال محاربة إرث العبودية في الولايات المتحدة الأميركية، متخذاً فريدريك دوغلاس وهو أحد قادة حركة الحقوق المدنية للأميركيين الأفارقة في القرن الـ 19، مثالاً يحتذى في هذا السياق.

فلسطين المحتلة
في سياق الملاحظات التي دوَّنها عن زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة، يقول كوتس: "من بين جميع العوالم التي استكشفتُها، لا أعتقد أن أياً منها كان أكثر إشراقاً وقوة من فلسطين. لكن عندما انقشع النور أصبحتُ أرى كلماتي بعيون جديدة. إن الذين زعموا أن إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط كانوا على الأرجح يدّعون أن أميركا هي أقدم ديموقراطية في العالم. واعتمد كلا الإدعائين على استبعاد شرائح كاملة من السكان الذين يعيشون تحت حكم الدولة. قضيتُ معظم وقتي في الأراضي المحتلة في عالم تحكمه الأقليَّات. ولكن في الدولة نفسها كان النظام الطبقي هو السائد. ديموقراطية للشعب اليهودي وحده. كانت مهمتي في فلسطين هي تنمية جذور جديدة ووصف هذا العالم؛ ليس باعتباره تابعاً لعالمي القديم، بل باعتباره عالماً قائماً بذاته" (ص 135).

ويتّكئ كوتس في هذا الجزء من كتابه على قراءاته الواسعة في تاريخ الاستعمار والتمييز العنصري، إلى جانب ما عاينه بنفسه في رحلته التي شملت عدداً من مدن الضفة الغربية، وفي مقدمتها القدس بقسميها. وهو هنا يربط بين ممارسات التطهير العرقي في أميركا القرن التاسع عشر ضد السود، ومثيلتها لدى سلطة الاحتلال ضد الفلسطينيين، كما يربط بين ادعاء الصهاينة أنهم جلبوا نعمة الحضارة إلى فلسطين، واعتقاد المستعمرين الأميركيين السود لأفريقيا، أنهم سيفعلون الشيء نفسه، "وهكذا ولدت ليبيريا" (ص 146).

الأكاديمي الأميركي من أصل أفريقي تا-نهِسي كوتس.

التطهير العرقي
جريمة الفصل العنصري، يُعرّفها القانون الدولي بأنها "أفعال لا إنسانية تُرتكب بغرض ترسيخ جماعة عرقية واحدة على أي جماعة عرقية أخرى وقمعها بشكل منهجي". ويقول كوتس إنّ هذا التعريف "يتطابق مع كل ما رأيتُه على أرض الواقع خلال رحلتي" (ص 196). ويضيف  "لعلّ الأهم من ذلك هو أن قادة إسرائيل أنفسهم لطالما رأوا أن الفصل العنصري هو ضمن نطاق الاحتمالات المتاحة لحكومتهم"، في حال لم يطبق حل الدولتين، كما صرح إيهود أولمرت عام 2007، وفي حال لم يمكَّن ملايين الفلسطينيين من حق التصويت في انتخابات تُجرى في كيان سياسي واحد يدعى إسرائيل، كما رأى إيهود باراك، وقتما كان يشغل منصب وزير الدفاع في إحدى الحكومات التي ترأسها نتانياهو. خلال الرحلة التي استغرقت عشرة أيام، أدرك كوتس أن عملية التطهير العرقي التي بدأت بتهجير نحو 700 ألف فلسطيني من منازلهم عام 1948، "لا تزال مستمرة". ويضيف: "مع نهاية زيارتي، أدركت أن النكبة شيء محدد، يتجاوز حتى أي تشبيهات بقوانين جيم كرو، أو الاستعمار، أو الفصل العنصري. لا يقتصر الأمر على قيام الشرطة بإطلاق النار على ابنك، على الرغم من أن هذا الأمر يحدث أيضاً. إنه ليس مجرد مشروع سجن عنصري، رغم أن هذا الأمر موجود أيضاً. ولا تتعلق فقط بعدم المساواة أمام القانون، رغم أن هذا موجود في كل مكان نظرت إليه في فلسطين. هذا هو الشيء الذي تخدمه كل الأجهزة، نهب منزلك، نهب مستمر ودائم". وهو يستشهد هنا بكلمات محمود درويش: "نحن نعيش، إن استطعنا أن نعيش، في ماض وليد، مزروع في حقول كانت لنا منذ مئات السنين حتى لحظة مضت، قبل أن يختمر العجين وتبرد أباريق القهوة". ويعلّق: "أقرأ هذه الكلمات فأرى سرقة قديمة لا تزال مستمرة، لكنني أرى أيضاً حميمية الخسارة، جيراناً مهزومين وأعلام الممنتصر على عد خطوات. يكتب درويش: (أكثر ما يجرحك، هو أن "هناك" قريب جداً من هنا)" (ص 198).

رسالة المغتصِب
أينما ذهب كوتس خلال رحلته إلى فلسطين، كان يشعر، بحسب تعبيره، أن الدولة تحمل رسالة واحدة للفلسطينيين داخل حدودها: "ستكونون أفضل حالاً في مكان آخر". ويقول: "في بعض الأحيان، كانت الرسالة تنقل بوحشية، كما حدث عندما طُرد ناصر وعائلته من منزلهم". وهو هنا يشير إلى ناصر نواجعة من بلدة سوسيا الواقعة على تلال الخليل الجنوبية، والتي تحتل المستوطنات اليهودية معظمها في الوقت الحالي. لكن في القدس - يضيف كوتس - الأساليب أكثر دهاء، فوجود فلسطينيين فيها هو أمر مزعج تماماً لليهود، الذين يعتبرونها الأساس الروحي لقيمهم، التي على أساسها قامت الجمهورية الأميركية وتشكلت الرابطة الوثيقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بحسب ما يردده دليل سياحي في البلدة القديمة، وهو يتحدث عن "مدينة الملك داوود"، على الرغم من عدم العثور على أي دليل أثري، يؤكد المزاعم الإسرائيلية في هذا الصدد.