أهدانا الروائي السوداني حمّور زيادة في السنة الأدبية 2025 رواية يعزز بها رصيده في الكتابة السردية، ويرسخ صناعته للتخييل، من منطلق فهم وتأويل خصوصيين لتاريخ وواقع بلده الأصلي، كما يزيد في تطوير وشحذ أدواته الفنية بيد كاتب يمهر في حرفته. بين ثلاثة أعمال متمايزة ومنسّقة ("الكونغ" 2000؛ "شوق الدرويش" 2014؛ "الغرق، حكايات القهر والونس" 2018) رسم زيادة الجغرافيا الكبرى لخرائط عوالمه الروائية، وحدد بنيات الثقافة الأنتربولوجية، والبيئة الاجتماعية، وأطرها السياسية، التي ستنهض فيها المحافل الروائية، بوصفها عالمًا عاكسًا لواقع، وناطقا بتاريخ، ومحتضنًا لمسارات ومصائر وأزمات، وفي الوقت مغايرة لها بنقضها وتقديم براديغم نقل مادتها الخام إلى صعيد تخييلي تتجسّد فيه الشخصيةُ الفرديةُ، ومثال العقدة المحلية، وهي مطوية في تضاعيف الأسطورة وصدى الأزمنة.

هذا لا يتفق إلا لكاتب عوّل على بناء مشروع، وصمّم له معمارًا ليبنيَه بتدرّج وعلى طرز يزوِّج فيه القالبَ الروائيَّ الكلاسيكيَّ نتاج الأدب الغربي، بالنسيج الخبريّ التراثي لبيئته، فيضع خطوة أولى في طريق التبنّي، أولًا، ثم الابتكار، ثانيًا، لطريقة في السرد متفاعلة ومميزة بذاتها. بين التعثر والتمرين وصل - في ظنّي - إلى مبتغاه في روايته الأخيرة "حادثة عيش السرايا وما يتعلق بها من وقائع مسلية" (دار العين) وأطروحتي في قراءتها وتسمية شكلها، بالأحرى نوعها، مستمدةٌ من طريقة السرد المعتمدةِ فيها والطقوس والإجراءات المكونة لها والمصاحبة. إنها الحكاية، في وعائها يصبّ، يروي، وهذه بحسب نوعها، ونسق سردها، وكيفية تلقيّها ذات طبيعة شفوية، أي لا تخضع غالبًا للتسلسل، وتُرتجل، تتقطّع، ولا ينبغي توقُع مطابقتها للواقع، هي منه وتكذّبه بالإنكار، بالمبالغة، وإما بالتهويل والتبشيع (الغروتيسك) فترتقي فوق الواقع، تتركه للقصة، هذه متآلفة ونسَقية، هي الكتلة السردية الموضوعية بمنطق عقلي تداولي.

من البداية تعلن الرواية عن ميثاقها لتُبرِم تعاقدًا واضحًا مع القارئ، لنقُل مع المستمع، تدعوه: 1- لسماع حكاية: "تعال أحكي لك قصة، فالطريق طويل" سنعرف متأخرًا أنه طريق حقيقي لا مجاز (ص5). 2- لتجذبه تغريه بغني الحكاية: "الحكاية زادٌ لا ينقطع" (5). 3- الحكاية بمثابة دعوة للتسلية: "الساعات التي تنتظرنا [في الطريق] تستحق تسلية" (5). 4- إعطاء إشارة انطلاقها والمرسل إليه معًا: "بدأت الحكاية [لنلاحظ، لا القصة] يا أخانا [المستمع] يوم الجمعة". مباشرة يقدم برنامج ما سيبدأ هذا اليوم وينتهي إليه هو الراوي مع مستمعه [أخانا] من حوادث، هي ثلاث: في يوم الجمعة هبّت الثورة؛ فشل الانقلاب؛ ووقعت حادثة عيش السرايا. وبما أن الأخيرة رُشِّحت للعنوان، وجب تبرير ذلك: "حادثة بها من اللطائف والمضحكات الكثير" (5). 

الروائي السوداني حمور زيادة. (مواقع)

ابتداءً من الجمعة المباركة يبدأ الراوي وظيفته ومنه سنعرف ما الخبر، ما سأحاول إيجازه، الخيط الناظم بمقتضى معلومات تاريخية عن السودان السياسي الحديث، ضرورية لفهم الحكاية والقصة ومسار شخصياتها، حبّذا لو وضع لها ملحقًا لئلا يقتصر الفهم على السوداني وحده. حاصلُه أن الراوي هو أحد الشخصيات الأبطال المهزومين من نظام البشير الإسلامي أطاحت بهم الثورة وتوقيع اتفاقية الشراكة بين الجيش وقوى الحرية والتغيير عام 2019. كان يعمل في ديوان وزارة مهمة ومع الانقلاب فرّ وزيره إلى تركيا وكذلك زوجته وأولاده، ولجأ هو من الخرطوم إلى بلدته خوفًا من البطش به، ليعيش تحت سقف أخيه وزوجة أخيه ستبرّ به، بينما محيط البلدة جمهوره مُعادٍ له، وفي خروجه سواء برفقة أخيه إلى المسجد، او بمفرده، هو عرضةٌ للتشهير باللمز أو المطاردة الخفيّة، وأنكاها شعارات وتنديد بكتابة حائطية على طريقة الدازيباو الصيبنة. في هذه البلدة (لا تُسمّى ولا غيرها) يتعايش الفلول المطاح بهم من الإسلاميين مع الثوار الانقلابيين أو يتواجهون بصمت ومكر، منهم إمام الجامع، ومسؤول تنقّل في عديد وزارات، وعذّب كثيرين. يجابههم شباب متمردون يُنعتون بالعلمانيين بطلهم شخص ملقب إبليس يردد الكاتب على لسانه الشعارات والأناشيد التي ألّفت في عهد الثورة. هنا على صعيد الخطاب يمكن تصنيف وفرز خمسة أنواع: 1- خطاب الرواي. 2- خطاب الإسلاميين (الفلول) المنقلب عليهم. 3- خطاب الثوار الانقلابيين. 4- خطاب المجنون، الشخص الذي من أثر التعذيب فقد عقله وصار يأتي غريب الأفعال ويهرطق في المسجد:" أنا الله!". 5- خطاب الدازيباو الاحتجاجي والتنديد بسلطة ورموز أمس. 6- الخطاب النقلة لبُّ الحكاية، فما هو؟

لتسفيه القصة والسخرية منها، عمد زيادة إلى الحكاية، نوع مرنٌ لا عقلاني، مزيجُ واقع وخيال، وعوض أن يقع الاصطدام بين القوتين المتصارعتين حول المبادئ والمشاريع، ينقسمون صفين حول حادث عيش السرايا" وهي حلوى تصنع من مواد (كذا) اتفق أن الرئيس البشير مرّ بالبلدة فقدمت له واستطابها بقوة ووعد بمكافآت. بعد مغادرته بزمن تنازعت أختان توأمان إعدادها وهما قبلئذ متخاصمتان، يناصر الثوار الأولى (التّومة) والفلول، الثانية (الحاجّة)، وبما أن كل واحدة ادعت أن عمّةً لهما خصتها بطريقة صنع الحلوى، يقصد الخصوم العمة في بلدة نائية وقد بلغت من العمر عتيًّا وحدها تمثل وحدة نووية حكائية داخل الحكاية الكبرى. بعد عنوستها تعلقت بالنجم السينمائي الفرنسي ألان ديلون من صورة له في مجلة وتوهمت أنه سيأتي ليخطبها وفي انتظاره أعدت له ما زعمت أنه عيش السرايا وأنكرت أمام الخصوم أنها علمت أحدًا. يعود الفريقان إلى البلدة لينكرا القصة كلها فلا غالب ومغلوب، وبينئذ يعود العسكر وقوى الدعم السريع يستولون على الحكم ويطيحون بقوى الحرية والتغيير بحكومة عبد الله حمدوك في آب/أغسطس 2021 بعد أن كانوا وقعوا معها اتفاقية الشراكة عام 2019. تنتهي القصة من حيث بدأت بداية رحّل الكاتب الكشف عنها إلى النهاية نعلم أن الراوي اللائذ ببلدته يتلقى أمرًا من وزيره في اسطنبول يخبره فيها بعد صمت طويل أن "الأمور تحت السيطرة" يعني انقضاض العسكر من جديد على السلطة وعودة رموز النظام القديم، هكذا بعث له سيارة لتنقله إلى الخرطوم، وما رواه موجّهٌ إلى السائق (أخانا) خلال المسافة بين البلدة والعاصمة.

نرى أن القصة المروية خيط ناظم وخلفية تارخية وقماش تطرز فوقه الخيوط وتُرسم الكيانات الصغرى تعطيه شكله وهي تزخرفه، بالحكاية تلوها، معبرة بذاتها، ومظفورة بوقائع خارجية، هذه الظفيرة هي الإبدال النوعي للسرد الذي يقترحه حمور زيادة، ويلتقي فيه مع المصريين حجّاج أدول، ووحيد الطويلة، يتخذ الشكل الروائي المعياري المتعدد إطارًا لسردية عربية تستثمر ثقافة البيئة، وتزكي الشفوية والهجانة خاصية كتابية معاصرة، وتنزع نحو رواية عربية ذات خصوصية، هذا ربما سيستحسنه الأستاذ عبد الفتاح كليطو الذي يراها عالة على الغربية.