الغرابة الشعرية الكاشفة المدهشة في شعر شوقي أبي شقرا

ثقافة 22-10-2025 | 07:57

الغرابة الشعرية الكاشفة المدهشة في شعر شوقي أبي شقرا

إنَّ هذا الشعر الفريد، ليس لعباً لغوياً، وليس كتابة سريالية، وإنما هو صنيع شعري مشغول بعناية.
الغرابة الشعرية الكاشفة المدهشة في شعر شوقي أبي شقرا
شوقي أبي شقرا. (منصور الهبر)
Smaller Bigger

عبد المجيد زراقط

تحلُّ، في هذه الأيام، الذكرى السنوية الأولى لوفاة الشاعر شوقي أبي شقرا (1935 - 10/10/2024).

يمكن لمن يعرف هذا الشاعر، سواء، في إدارته للصفحة الثقافية، في "النهار" لمدة خمسة وثلاثين عاماً، أم لدى قراءة تراثه الشعري، أن يرى فيه رائداً كبيراً في صناعة حركة ثقافية عربية، في لبنان، متميِّزة بتنوُّعها وغناها وكشف مواهب ورعايتها، وأن يرى فيه كذلك شاعراً كبيراً، فريداً، بين أقرانه، بدءاً من "حلقة الثريا" التي أسسها مع ثلاثة اَخرين، هم جورج غانم وإدمون رزق وميشال نعمة، وصولاً إلى "مجلة شعر" التي كان من أبرز أعضائها، وسكرتير تحريرها، وحائز جائزتها الشعرية الأولى.

تجربة شعرية طويلة عاشها شوقي أبي شقرا إلى أن حقق فرادته؛ إذ بدأ محاولاته الأولى بالكتابة بالفرنسية، وبترجمة نماذج من الشعر الفرنسي الحديث لرامبو ولوتريامون وأبولينير وريفردي، ثم بكتابة الشعر العربي الموزون المقفى، فشعر التفعيلة، فقصائد النثر، وتميَّز من كتاب هذا النوع الأدبي بفرادته المميِّزة له.

يبدو لي أنّ َأفضل طريقة لتبيُّن هذه الفرادة الشعرية المميِّزة لأبي شقرا، على مستويي خصائص اللغة الشعرية والرؤية التي تنطق بها، هو قراءة نصِّيَّة في أحد نصوصه الشعريَّة القصيرة.
أقرأ، من مجموعته الشعرية "لا تأخذ تاج فتى الهيكل"، مقطوعة هي:
"١. أعضُّ خسَّة الكاَبة/ جنزير الكهف، معدن القداسة.٢. لي نمشُ الرحلة/ غمضة السكران. ٣. والملفوفة عيني اليسرى". ( ص. ٢٧).
تبدو هذه المقطوعة القصيرة لعباً لغوياً غامض الدلالة، أو فاقدها، وقد تبدو، كما رأى بعض النقاد، كتابةً اَلية، سريالية تصدر عن اللاوعي، أو عن المكبوت غير المفهوم، غير أنَّ القراءة المتأنية فيها تفيد سوى ذلك، وهذا ما سنقوم به، في ما يأتي:  
تبدأ المقطوعة بـ"أعضُّ"، والعضُّ هو سلاحٌ فطريٌّ للدفاع عن النفس، ولعله سلاح الإنسان العاجز الذي يرفض واقعاً يعاني صعوباته التي تكوّن الكاَبة، ويلجأ إليه عندما يفقد أيّ سلاح من الأسلحة الأخرى الفاعلة.
في هذا" العضِّ"،  تتجسد المفارقة؛ ذلك أنَّ الشاعر، وهو يعضُّ، مُريداً دفع "الكاَبة"، يقضمها طريَّةً ناعمة "تقرقش" كما هي الخسَّة لدى قضمها. وإن كان من اعتراض على عدم شعرية هذه الكلمة، ففي الحقيقة أنَّ شعرية الكلمة تحدِّده الوظيفة التي تؤدِّيها من موقعها في بنية النص، وفي رأيي أن ليس من كلمة أخرى يمكن أن تحلَّ محلَّ "الخسة " في هذا الموقع.

تنشئ هذه المفارقة التضادَّ بين فعلين: الأول فعلٌ يؤدِّي إلى إزالة الكاَبة، وهو عضُّ الطريِّ الناعم "المقرقش" ، والثاني فعلٌ يفضي إليه الفعل الأول، وهو الإنزلاق، بكثيرٍ من السهولة إلى الكهف؛ حيث تتمثل ثنائية تضاد، طرفها الأول طراوة الخسة ونعومتها وسهولة قضمها، وطرفها الثاني قساوة الجنزير وخشونته واستحالة قضمه، علاوة على أنَّ هذا الجنزير يحول دون خروج المنزلق من الكهف.

وتبلغ المفارقة/المرارة ذروتها عندما يكون الكهف وجنزيره "معدن القداسة"، والمعدن لا يُقضم، ولا يقطع، ويحتاج إلى الصهر، ومن أين للشاعر "فرن" الصهر، وهو العاجز الذي لا يملك سوى سلاح عضِّ ما تمثّله "الخسة" من نعومة وسهولة...!؟

 

شوقي أبي شقرا. (منصور الهبر)
شوقي أبي شقرا. (منصور الهبر)

 

يعاني الشاعر هذا الواقع، وتغدو معاناته مأساوية عندما لا يكون في عالمه "عسل يسلي ويحلي"، كما في حكاية ابن المقفع المعروفة؛ إذ ماذا يجدي "العضُّ" في الجنزير - معدن القداسة - المتصف بصفتين تجعلان مقاومته مستحيلة: الأولى هويته الحديدية، والثانية قداسته، بأنواعها الكثيرة، في الواقع المعيش، لدى الاَخرين، وهنا تتمثل مأساة عبث السعي إلى إنجاز، وهي مأساة شبيهة بمأساة "سيزيف"، لكن من هو الإله الذي يدير عالم الشاعر، ويحكم عليه بمعاناة هذا العبث؟ يترك الشاعر للقارئ أن يجيب عن هذا السؤال، وهو، في هذا الصنيع، يجعل متلقيه شريكاً له في الإبداع.

في الحركة الثانية، من حركات المقطوعة الثلاث، يفاجأ القارئ بصورتين شعريتين مبتكرتين: "لي نمش الرحلة، وغمضة السكران". وإن يكن نثر الصورة الشعرية/الدالِّ صعباً، فإنِّي أرى أنَّ هاتين الصورتين تنطقان بما يأتي:

ليس من إنجاز وفرح به في رحلة العيش/العبث، وليس من نشوة السُّكر الذي كان من الممكن أن يسلِّي ويحلِّي، وإنما هي غفوة السكران الذي يريد أن ينجو بها من معاناة مأساته.
تلي الحركة الثالثة، وتكون متوقَّعة، فقد نرى أن عينه اليمنى تبقى غارقة في نمشها و"غمضها"، وأن عينه اليسرى تمتلئ بشيءٍ يشير إلى ما يعيشه الشاعر من كاَبة مجسَّمة، فلا ترى هذه العين من أشياء العالم سوى "ملفوفة " تملأها، وتتوحد بها، و"الملفوفة" قريبة الخسة، لكنها تفوقها كاَبة، فهي متعددة الطبقات، وأكثر قساوة، وتملأ العين وتسدُّها، فيستحيل عضها، وتجعل الكهف أكثر عتمة، ما يشير إلى غدوِّ العالم كلِّه كاَبة مجسَّمة، من العبث محاولات التخلص منها.

الملاحظ أنّ الشاعر يستخدم في هذه المقطوعة، في كشف الواقع المعيش، معجماً لغوياً مأخوذاً من لغة الحياة اليومية، وهذا المعجم تفرّد به هو، منذ كتاباته الأولى؛ إذ إنه ينشئ الجملة الشعرية، فصيحة التركيب، من ألفاظ متداولة في المحكية اليومية، وقد اتخذ هذا التفرّد شكل ظاهرة أُطلق عليها" لَبْنَنة" اللغة الشعرية العربية.

ينتظم هذا المعجم في تراكيب شعرية بسيطة، كما ينشئ الشاعر صوراً مبتكرة مدهشة، تبدو غريبة ومفاجئة، وتحتاج إلى بذل جهد لتبيُّن دلالتها، كما يعمد إلى كثير من الحذف/الغياب الذي يُترك للقارئ أن يستحضره من طريق التخيُّل، فيكون شريكاً في الإبداع، وهذا ما لاحظناه قبل قليل.

ويبدو أنّ هذه المقطوعة التي تتكوَّن من ثلاث حركات، تعتمد تقنية المشاهد المتباعدة، محكمة البناء، فتنتظم في محور مركزي يكتمل باكتمال هذه الحركات، فلا يمكن حذف عنصر منه، أو إضافة عنصر إليه، من دون الإساءة إلى بنيته ودلالتها.

إنَّ هذا الشعر الفريد، ليس لعباً لغوياً، كما يرى بعض النقاد، وليس كتابة سريالية، كما يرى بعضهم الاَخر، وإنما هو صنيع شعري مشغول بعناية، وهو وليد وعي مركَّز بـ"مأساة عبث العيش المعاصر"، ليس أسطورةً (سيزيف مثلاً)، كما كان يملي العيش في العالم القديم، وإنما نصٌّ شعري فريد، يمليه عيش العالم المعاصر، يبدو، في الظاهر سخرية عابثة، ليمثل في حقيقته عبث عيش، يشاغله الشاعر بالعبث به والسخرية منه، من طريق غرابة شعرية كاشفة مدهشة.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/21/2025 6:00:00 AM
الحرب انتهت، لكنها جولة ضمن الصراع الأكبر، وعدم إيجاد حلول للصراع سيعني عودة الحرب!
المشرق-العربي 10/20/2025 10:41:00 PM
 سرية تُعرف باسم "إمبراطورية مصاصي الدماء" قتلت الطفلة هند رجب 
المشرق-العربي 10/21/2025 12:47:00 PM
في خطوة من شأنها إعادة تشكيل القطاع المصرفي المتضرر في البلاد.
تحقيقات 10/21/2025 2:10:00 PM
ما هي أبرز التحديات التي تواجه عمليات البحث عن الجثث والمفقودين في غزة؟