الفنان صليبا الدويهي غجريّ طرّز فنّه في الطبيعة
*الدكتور مارون مخول
عندما تندمجُ هويّةُ الفنّان التشكيلي بإيديولوجيا مستجدّة، وتقحمُ عوالم جديدة من التطريز التلويني للمحسوسات، ويجدُ أنّ الطبيعةَ الداخليّةَ التي تسكنُه قد أنشأت حواراً مونولوجيّاً خاصّاً بين الخيال والمتجسّد، نكون أمام فنٍّ جديدٍ يمسكُ بتلابيب الأشكال ليصنعَ منها مهارةً متفانية، تمهّدُ للمدرسة الحديثةِ التي تتخطّى التجديد الشكلي فقط.
لقد استطاع الرسّام صليبا الدويهي أن يدكّ حصونَ التردّد في تطوير الفنّ التشكيلي، فاقتحم الأبوابَ من أوسعها، هو الذي تأثّر بطبيعة إهدن الخلّابة التي تتكحّلُ من عبق الأرز ونسيم السكينة، وحفرَ بمديةِ الإلهام سرّه الفنّي في أحضانها، وحصلَ بينهما ما يشبُهُ المناجاةَ الروحيّةَ التي تنبعُ من القلب وتستقرّ فيه. وسافر بعدها إلى الولايات المتّحدة ليجلّد كتبَ معرفته بكلّ ما هو حديث، واستطاعَ أن يُتحفَ الفنّ اللبناني بخصوصيّةٍ رائدة، خلّدت اسمه في المراحل اللاحقة.
وبما أنّ وظيفةَ الرسم الأساسيّة هي إبراز كلّ الأشكال الرمزيّة وإظهارها حقائق شاملة، تصاحبها البديهة التي تعكسُ النظرة التأمّلية والبصريّة، وكذلك الانفعال الفطري الذي يلمسُ الروحَ بالاقتناع والاكتفاء الجمالي الذي يُبهرُ ويفرضُ سيطرتَه على نحو غير مسبوق، فقد صنع الدويهي من الكلاسيكيّة الفنّية حدثاً بارزاً، ولم يكتفِ بتقديم متعةِ انفعالاتِه في لوحاتِه بأشكالها المعاصرة، لكنّه كتبَ من خلالها قصصاً على شكل خطوطٍ ووجوه، عبّرت عن فهم وجهاتِ نظرٍ تجريديّةٍ تصطفّها ريشته، متوكّئاً على عامل المعرفة الذي ينتصب وتداً منيعاً وأساسيّاً في صلب الفنّ التشكيلي، والذي عكسَ مجهوداته الزاخرة بالفكر وبالحياة.
دفعه استطلاعه للفنون التشكيليّةِ الغربيّة، إلى اعتناق المذاهب الانطباعيّة والتكعيبيّة والتبسيطيّة، التي جازفَ بإبرازها في حلّة جديدة، لم يسبقه إليها أحد، وقد كانت لوحاته الريفيّة قريبة من أعمال الفنّانين الرومانسيّين، عابقة بالحنينِ الأنطولوجي، ومنظّمة مثل تواتر الفصول، وشاهدة على تاريخٍ مرئي، ليستخرجَ المعاني من أعماله الفنيّة، ويثمر ذهنه تحليلاً تعليليّاً لما حوله من الموجودات، ومتعة الفن التي لا تضاهيها أيّ متعةٍ أخرى، واتّجه إلى التكعيبِ ليعبّرَ عن فلسفةٍ وجوديّة حرّة المشاعر والتعبير.

وفي تجاذبٍ بين الضوء والظل، يستخلصُ الدويهي هندسةً فيزيائيّة يربط بها بين تعرّجاتِ الخيال وانعكاسات الواقع، في حركاتٍ أفقيّة في بعضِ أعماله، وأخرى منحنية، وفي كلّ خطّ بداية فجائيّة ونهاية غير منتظرة، وغير منتظمة.
لقد كان ملتهب الإيمان، كثير التقرّب إلى الله، ينشدُ السكون في رحابه، وقد برزت أعماله عندما زيّن كنيسة مار يوحنا في زغرتا من خلال رسم جداريّاتها، لتمنحه النجوى مزيدا من المفاتيح السريّة للتشكيل تشبه مفاتيح النوتة الموسيقيّة، من خلال بواعث بصريّة متفاعلة.
وبرز التجاذب النفسي في عزلته في دير غوسطا حيث نهل من البحوث في تاريخ الديانات الشرقيّة، مقدّساً تراث الكنيسة كوجهٍ حضاري ومَعْلمٍ تاريخي، وفي هذا قال: "أنا أصوّر مستقبل أمّتي وأمّتي تفتقر إلى الفنّ". وجاءت أعماله مبسّطه ولكنّها مقدّسة في التصوير الذاتي، ممّا منحه الهدوء الفلسفي المنشود للرسم كعملٍ متكامل، ومتأثّرة بأعمال النّحات الإيطالي الشهير جان لورينزو "نشوة القدّيسة تيريزا".
وكانت الألوان المائيّة الشرقيّة تخضعُ لتأثيراتِ الضوء وتغيّراته، من دون حفرٍ غائر ومبالغ فيه، يسبرُ أعماقَ مفاهيم الجمال وينقله إلى البصر من دون أن يعكّرَ توازنه. ووفّرت له دراسته الرسم على الزجاج في أميركا المجالَ الواسعَ لتطويرِ مواهبه، حيث كسّر الزجاج وصقله على ثلاث طبقات ليجعلَ من دير القدّيس شربل متحفاً عالميّاً، يؤمُّه المصلّون، وساهمت هذه الإبداعات في إدراج اسمه في أميركا في الموسوعات الفنيّة علامةً فنيّة مميّزة ومعطاءة.
رحل الدويهي لكنّ أعماله بقيت منزّهةً عن التنافس، فقد جعلَ فيها بصمةً لا يُخلُّ بقيمتها، وقد برع في رسم ما يسمّى طباعة الدرجات اللونيّة بتدرّجات استثنائيّة وعميقة، مثل المهارة الإغريقيّة الخطيّة التي برعت في الإطار الجيومتري في تنظيم الخطّ واللون والطول والعرض، لتتدفّق منها عذوبة ورقّة تسحر الناظر إليها.
في لوحاتِه القرويّة تأثّر الدويهي بفان جوخ، وبخاصة في تعارك الألوان الحمر والخضر في لوحاته التي ترمزُ إلى الوعي بشقاء الكون، وتنتمي إلى الفنّ التأثيري. وفي توالدٍ روحيّ للمنشآت الكونيّة، يبرزُ اسمُ الدويهي مهندسا تشكيليا أدّى دوراً رائداً في حركة "التطريز" الطبيعي والكنسي، إذ لم يكن رسمه اعتياديّا، بل كان يشبه الغجري الذي يطرّزُ الوشم على ذراع الشجر وكفّ النور المنبعث من عبث الشمس، وظلّ الريح المتناثر حول سهول الأعشاب.
نبض