عمارة تبني الأمل: دروس من المشاريع الفائزة بجائزة الآغا خان للعمارة 2025

ثقافة 21-10-2025 | 15:34

عمارة تبني الأمل: دروس من المشاريع الفائزة بجائزة الآغا خان للعمارة 2025

كلّ مشروع تكرّمه الجائزة هو حكاية عن مجتمع يسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الأصالة والمعاصرة.
عمارة تبني الأمل: دروس من المشاريع الفائزة بجائزة الآغا خان للعمارة 2025
مجمّع مجرّة وإعادة تطوير المجتمع، إيران.
Smaller Bigger

محمد أدهم السيد

منذ انطلاقتها عام 1977، رسّخت جائزة الآغا خان للعمارة مكانتها كمنصّة فريدة تتجاوز مفهوم المنافسات التقليدية في مجالات التصميم والتميّز المعماري. فقد أعادت الجائزة تعريف معنى العمارة، لتجعل منها أكثر من مجرّد هياكل من الإسمنت والزجاج أو استعراض للأشكال الهندسية المبهرة؛ بل أداة فاعلة لتمكين المجتمعات وتعزيز قدرتها على التجدّد. فكل مشروع تكرّمه الجائزة هو حكاية عن مجتمع يسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الأصالة والمعاصرة، بين الحلم والضرورة، وبين ذاكرة المكان ومتطلبات الحياة الحديثة. وهكذا تغدو العمارة في رؤيتها رسالة إنسانية قبل أن تكون غاية جمالية، وسبيلاً لارتقاء الإنسان ببيئته وحياته.

على مدى ما يقارب نصف قرن، تحولت الجائزة إلى مرجع عالمي لكل من يبحث عن تلاقي الحس الجمالي مع البعدين الاجتماعي والبيئي، كما أصبحت منصة للاعتراف بالمجتمعات والمبدعين الذين حوّلوا الاحتياجات المحلية إلى حلول مبتكرة وملهمة. وما يميزها عن سائر الجوائز المعمارية هو تركيزها على الواقع؛ ففي كل دورة، ترسل لجان التحكيم خبراءها إلى الميدان لمعاينة أثر المشاريع على أرض الواقع والتفاعل المباشر مع السكان والمستخدمين، بدلاً من الاكتفاء بالصور أو المخططات. هذا النهج رسخ الجائزة كمقياس حقيقي لعمارة الفعل وليس الشكل، حيث تُقاس القيمة بقدرة المبنى على خدمة الإنسان والمجتمع.

 

إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.
إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.

 

في دورة عام 2025، التي أُعلنت نتائجها في مطلع سبتمبر الماضي، استمر هذا التقليد، ولكن بنفَس أكثر جرأة وتركيزًا على البُعد الإنساني. نالت سبعة مشاريع من قارات متعددة شرف التكريم وتقاسمت جائزة مالية قدرها مليون دولار، إلا أن مشروعين منهما جَذبا الأنظار بشكل خاص، ليس فقط لجمال تصميمهما، بل للرمزية العميقة التي يحملها كل منهما: المشروع الفلسطيني "مجلس العجب" في بيت لحم، والمشروع المصري "إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية" في صعيد مصر. ورغم اختلاف طبيعة كل مشروع ووظيفته، فإنهما يشتركان في جوهر واحد: أن العمارة يمكن أن تتحول إلى أداة حياة ومجال للمقاومة الثقافية والاقتصادية، وأن البناء يمكن أن يكون فعلًا مجتمعيًا، لا مجرد واجهة أو فراغات.

والأهم من ذلك، أن هذه المشاريع استجابت للرسالة التي حملتها الجائزة في هذه الدورة، وفي طليعتها التفاؤل والأمل، كما أشار فرّخ درخشاني، مدير جائزة الآغا خان للعمارة، في تصريح له بهذه المناسبة، حيث قال: "يجب على العمارة أن تكون محفزاً للأمل، فهي لا تشكل الفضاءات التي نعيش فيها فحسب، بل تصوغ أيضاً المستقبل الذي نتخيله. وفي عصر تتسم تحدياته بأزمة المناخ، وانعدام المساواة في الموارد، والتوسع الحضري المتسارع، تحتفي جائزة الآغا خان للعمارة بمشاريع تدمج بين المجتمع، والاستدامة، والتعّددية، لتمكين عالم أكثر انسجاماً وقدرة على الصمود".

 

إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.
إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.

 

وقبل الخوض في تفاصيل المشروعين العربيين الفائزين، من الضروري إلقاء نظرة على جميع المشاريع التي فازت بجائزة الآغا خان للعمارة في دورتها الأخيرة لعام 2025. هذا الاستعراض يساعدنا على فهم سياق هذه الاختيارات وما تحمله من دروس قيّمة في العمارة والتنمية المجتمعية. ويُذكر أن الجائزة في هذه الدورة تكرم المشاريع التي تتصدى للمخاطر المناخية، وتحافظ على التراث الثقافي، وتقدم حلولاً سكنية ميسّرة. وتؤكد هذه الجائزة جلياً أن العمارة ليست مجرد استعراض للثراء، بل هي ضرورة ومسؤولية تجاه الأجيال القادمة.

لمحة عن المشاريع الفائزة في دورة 2025
تميزت دورة عام 2025 من جائزة الآغا خان للعمارة بتنوّعٍ جغرافي وإنساني لافت، عكَس عمق رسالة الجائزة التي لا تحتفي بالشكل الهندسي وحده، بل بالقدرة على تحويل العمارة إلى أداة لحل الأزمات الاجتماعية والبيئية والثقافية. وقد جسّدت سبعة مشاريع من آسيا والشرق الأوسط رؤى مختلفة للعيش والهوية والمستقبل، يروي كلٌّ منها قصة مجتمعٍ واجه تحدياته بالابتكار والإصرار.

 

إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.
إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.

 

في بنغلاديش، قدّم مشروع "خُودي باري"، من تصميم المعمارية المتألقة مارينا تبَسُّم وفريقها، حلاً إنسانيًا بسيطًا وعميق الأثر. يتألف المشروع من وحدة سكنية معيارية قابلة للتفكيك والتركيب، بُنيت من الخيزران والفولاذ الخفيف، استجابةً لاحتياجات المجتمعات النازحة جرّاء الفيضانات المتكررة وتغيّر المناخ. لكن خلف بساطة التصميم تكمن رؤيةٌ بعيدة المدى: تمكين السكان أنفسهم من بناء مساكنهم بموارد محلية، بتكلفة زهيدة، وبقدرة على الصمود أمام الكوارث. المشروع لا يقترح مبنى فحسب، بل منهجًا في التكيّف المناخي، ما جعله نموذجًا يُدرّس في مدارس العمارة كأحد الحلول الأصيلة لمواجهة آثار الاحتباس الحراري في دلتا البنغال. أشادت لجنة التحكيم بالإطار البيئي العميق للمشروع، وبإسهامه في تعزيز الاستخدام العالمي للخيزران كمادة بنائية.

في الصين، كرّمت الجائزة مشروع "مركز قرية ووست ووسوتو المجتمعي" في هوهوت، الذي صممته شركة منغوليا الداخلية الكبرى للتصميم المعماري المحدودة. هذا المبنى، رغم صغر حجمه، يحمل دلالات كبيرة؛ إذ شُيِّد في قريةٍ ذات خليط عرقي وثقافي متنوع، تضم مسلمي قومية الهوي. كان الهدف منه خلق فضاءٍ محايد يجمع الناس عبر الثقافة والتعليم والفن. اعتمد المعماريون على طوب مُعاد تدويره من مبانٍ قديمة، مما جعل الاستدامة أساسًا جماليًا وإنسانيًا للمشروع. أصبح المركز اليوم قلب القرية الاجتماعي، حيث يحتضن الفعاليات والمهرجانات المحلية، ويعيد تعريف العلاقة بين العمارة والمجتمع في الريف الصيني. وأشارت لجنة التحكيم إلى أن المشروع يمثل نموذجًا مصغّرًا وشاملًا للحياة المجتمعية ضمن النسيج الريفي الإنساني الأوسع.

 

إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.
إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.

 

أما من إيران، فقد فاز مشروعان يعكسان وجهين متكاملين للرؤية المعمارية المعاصرة في البلاد. الأول هو "مجمّع مجرّة وإعادة تطوير المجتمع" في جزيرة هرمز، من تصميم شركة "زاف للعمارة"، الذي حوّل بيئة الجزيرة القاحلة إلى لوحةٍ من الألوان والطين والحياة. صُمّمت المساكن بأسلوب يزاوج بين الجمال والوظيفة، وبُنيت بمواد محلية وتحت إشراف حرفيين من السكان، لتصبح تجربة فريدة في السياحة المجتمعية المستدامة. هنا، تلتقي العمارة بالفن الشعبي، ويتحول المأوى إلى تجربة ثقافية واقتصادية تعيد تعريف السياحة كعلاقة تبادلية مع المكان بدلاً من مجرد استهلاك له. وقد وصفت لجنة التحكيم المشروع بأنه أرخبيل نابض بالحياة ببرامجه المتنوعة، ويسهم تدريجيًا في بناء اقتصاد سياحي بديل.

أما المشروع الثاني في إيران فهو ميدان مترو جهاد بطهران، الذي صممه استوديو كيه إيه (KA) للعمارة. نجح الاستوديو في تحويل محطة مترو مهملة في العاصمة إلى فضاء عام مفتوح يعيد لروح المدينة نبضها. اعتمد التصميم على استخدام الطوب المحلي المصنوع يدويًا، مما يعكس تقاليد البناء الإيرانية ويخلق توازنًا بين الحداثة والذاكرة المعمارية. اليوم، أصبحت الساحة ملتقى يوميًا لآلاف المواطنين، ومثالًا على كيف يمكن لتدخل بسيط ومدروس أن يعيد للمدينة نبضها الإنساني. وشددت لجنة التحكيم على أن استخدام الطوب التقليدي المعمول يدويًا يعزز الصلة بالتراث المعماري الإيراني الغني، بينما يؤكد نسيجه الدافئ والهادئ مكانة المحطة بوصفها نصبًا حضريًا جديدًا.

 

إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.
إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية.

 

وفي باكستان، فاز مشروع "رؤية باكستان" في إسلام آباد، من تصميم استوديوهات دي بي (DB)، وهو مبنى متعدد الطوابق يضم منظمة خيرية تعنى بتدريب الشباب وتمكينهم. استخدم المعماريون واجهات زخرفية مستوحاة من أنماط الحرف الباكستانية التقليدية، لكنها قُدّمت بترجمة معاصرة تعبر عن الحاضر دون انفصال عن الجذور. المبنى ليس مجرد مركز تعليمي، بل هو منصة اجتماعية تربط المهارات بالفرص، وتعيد الاعتبار للحرف اليدوية بوصفها جزءًا من الهوية الحضرية الحديثة. وقد أشارت لجنة التحكيم إلى أن المبنى لا يقتصر على توفير نوع جديد من التعليم، بل يتميز أيضًا بوفرة الضوء، والتنظيم الفراغي المشوّق، والكفاءة الاقتصادية العالية.

إلى جانب المشروعين الفائزين من مصر وفلسطين، تكشف هذه المشاريع مجتمعةً أن دورة 2025 لم تكن سباقًا في الشكل أو الحجم، بل كانت احتفاءً بالإنسان. فسواء كان المشروع كوخًا بسيطًا في قرية نائية أو مركزًا حضريًا في قلب العاصمة، فإن القيمة الحقيقية تكمن في قدرته على خلق أثر إيجابي مستدام. لقد اجتمعت في هذه الدورة سبعة أصوات معمارية تعبّر بلغات مختلفة عن الفكرة ذاتها: أن العمارة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة للكرامة، وللتعليم، وللأمل.

 

خودي باري، بنغلاديش.
خودي باري، بنغلاديش.

 

بيت لحم... حين يصبح الفضاء فعل مقاومة ثقافية
في بيت لحم، انطلق مشروع "مجلس العجب" محاولاً فتح نافذة على المستقبل دون إغلاق الباب أمام الذاكرة. لم يكن الهدف بناء مبنى بقدر ما كان تأسيس فضاء ثقافي إنتاجي يدعم الحرفيين والفنانين والمصممين المحليين، ويمكّنهم من تحويل مهاراتهم إلى مصدر رزق واستقلالية. صُمم المكان ليكون مزيجاً من الورش والقاعات والمعارض، مما يتيح تكاملاً بين التعليم والإنتاج والعرض العام؛ فمن هناك، تُصنع الحرف التقليدية بروح عصرية، وتُقام الدورات التدريبية للشباب، وتُقدَّم العروض الفنية والموسيقية والورش الفكرية. هذا المشروع أقرب إلى خلية حية منه إلى بناء جامد، إذ ينبض بالحياة عبر القائمين عليه والعاملين فيه.

صُمم المشروع ليكون منارةً مفتوحة ومرنة وشفافة للإنتاج الثقافي والقدرة على الصمود في وادي الكركفة، حيث تُيسّر البنية المكانية للمبنى التبادل والحوار وبناء المجتمع. يجمع البرنامج المتنوع بين استديوهات للفنانين، ومساحات للإنتاج، ومحطة إذاعية، ومطعم، ومكاتب المعماريين الموزّعة على منصات مختلفة، فيما يربط الفراغ العمودي الممتد عبر طوابقه الثلاثة بين هذه العناصر بصرياً وهيكلياً، سواء داخل المبنى أو باتجاه المشهد الطبيعي المحيط به.

 

مجلس العجب، فلسطين.
مجلس العجب، فلسطين.

 

يُظهر المشروع، الذي استلهم لغة البناء الحديثة من الهياكل الخرسانية المنتشرة في بيت لحم وضواحيها، إمكانية تحقيق الغنى والتعقيد المكاني عبر الاستخدام الذكي لطرق البناء القياسية والحد من المواد المستهلكة. تتحول الشبكة الخرسانية إلى بنية حاضنة للإنتاج الثقافي ونصب محلي في آنٍ واحد؛ فهي مجهولة الملامح من حيث التعبير والحجم، لكنها مؤثرة وعميقة الأثر في محيطها. يندمج المبنى مع باقي مباني المدينة عبر تعبيره المعماري، وفي الوقت نفسه يبرز بشفافيته كإيماءة معمارية منفتحة ومرحبة في المشهد العمراني. ويكتمل هيكله الخرساني المكشوف بحضور عناصر حرفية محلية الصنع، مثل اللافتات الدوّارة، والنوافذ الدائرية، والجداريات التي تحتفي بالإنتاج الفلسطيني المعاصر.

اعتبرت لجنة التحكيم لجائزة الآغا خان للعمارة المشروع نموذجًا استثنائيًا لقدرة التصميم المعماري على تأسيس منظومة اقتصادية واجتماعية مصغرة ترتكز على المعرفة والإبداع. وفي السياق الفلسطيني تحديدًا، حيث تعيق الظروف السياسية والاقتصادية إمكانيات النمو، يتحول أي فضاء حر إلى ساحة للمقاومة الثقافية. وبالتالي، فإن "مجلس العجب" ليس مجرد مبنى، بل هو فعل رمزي وإعلان عن قدرة الفلسطيني على إعادة بناء ذاته عبر الفن والعمل والمعرفة. ووفقًا لتقرير لجنة التحكيم، تكمن القيمة الحقيقية للمشروع في أنه "يقدّم نموذجًا لعمارة الوصل، المتجذّرة في التعبيرات المعاصرة عن الهوية الوطنية، والمؤكدة على أهمية الإنتاج الثقافي بوصفه شكلاً من أشكال المقاومة".

 

مجلس العجب، فلسطين.
مجلس العجب، فلسطين.

 

اليوم، يوفر المشروع عشرات فرص العمل والتدريب للشباب، ويعيد الاعتبار للحرف التقليدية، ويمنح المدينة مركزًا ثقافيًا معاصرًا يربطها بشبكة إنتاج إقليمية ودولية. كما يُسهم بتحويل العمارة إلى مُحرِّك للتنمية الثقافية، مما يجعله من أبرز الأمثلة على دمج الإبداع بالاقتصاد المحلي في المنطقة. لقد غدا هذا المشروع نموذجًا مصغرًا لكيفية بناء اقتصاد ثقافي في بيئة تعاني من الحصار، ويقدم نجاحه دليلاً ملموسًا على أن الاستثمار في الثقافة يمكن أن يكون وسيلة للبقاء والاستمرار.

إسنا... عودة الروح إلى مدينة تقع على ضفاف التاريخ
على الضفة الغربية للنيل، وفي مدينة إسنا الصغيرة التي كانت يومًا بوابة تجارية مزدهرة، انطلق مشروع «إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية» بهدف استعادة مكانة منطقة غمرها النسيان. تقع إسنا جنوب الأقصر، وتزخر بإرث معماري وحضاري عميق، لكن الإهمال والتغيرات الاجتماعية أضعفت مكانتها. تدخل فريق "تكوين للتنمية المتكاملة"، بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار المصرية ومحافظة الأقصر، وبدعم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لإطلاق مشروع طموح يتجاوز مجرد ترميم الواجهات أو إعادة تأهيل المعبد؛ إنه يهدف إلى إحياء النسيج العمراني القديم للمدينة بأكمله.

 

مجلس العجب، فلسطين.
مجلس العجب، فلسطين.

 

منذ البداية، اتضحت المقاربة المتبناة: المشروع لا يتعامل مع التراث كأثر جامد يُحفظ لأغراض سياحية فحسب، بل باعتباره موردًا اقتصاديًا واجتماعيًا يجب أن يعود نفعه على السكان أنفسهم. وقد تم إشراك الحرفيين المحليين في أعمال الترميم، وتنشيط الأسواق القديمة، وتحسين الخدمات الأساسية، ليصبح الحفاظ على التراث عملًا جماعيًا يشارك فيه المجتمع بدلاً من كونه قرارًا إداريًا يُفرض من الأعلى.

شملت الأعمال الإنشائية ترميم وإعادة توظيف وكالة الجداوي التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وتطوير سوق القيسارية وشارع البازار، بالإضافة إلى ترميم بيت الضيافة الملكي من القرن التاسع عشر، وإعادة تأهيل 15 موقعًا ذا أهمية معمارية. وقد جرى التنفيذ باستخدام مواد محلية مستدامة مثل الطوب اللبني والخشب، مع التركيز على إعادة التدوير وإحياء التقنيات التقليدية.

 

مجلس العجب، فلسطين.
مجلس العجب، فلسطين.

 

أما على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، فقد تركزت الجهود على بناء قدرات أكثر من 430 مشاركًا محليًا و18 شركة صغيرة ومتوسطة في مجالات إدارة الأعمال وتوثيق التراث الثقافي والمعماري. كما ساهم إطلاق مشاريع تقودها النساء – مثل "مطبخ النساء" وورشة نجارة نسائية – في تعزيز دمج قضايا النوع الاجتماعي. وأدت مبادرات السياحة إلى زيادة ملحوظة في عدد الزوار، إلى جانب تقديم الدعم في مجالي البنية التحتية والتمويل للشركات المحلية.

كانت النتائج مبهرة؛ فقد عادت الحياة إلى الشوارع التي هجرها الناس، وانتعشت الأنشطة التجارية الصغيرة، وبدأت إسنا تستعيد تدريجيًا مكانتها كوجهة ثقافية وسياحية متجددة. وصف المشروع، كما جاء في تقرير لجنة التحكيم العليا للجائزة، بأنه "يتجاوز الحدود المعتادة لمشاريع الحفاظ العمراني التقليدية، حيث يطرح استراتيجية متقدمة تبدأ من القاعدة وتتصاعد للأعلى، عبر برنامج شامل ومنظم اجتماعيًا يهدف إلى تحسين البيئة التراثية. وفي هذا الإطار، يلعب السكان دورًا محوريًا في الحفاظ على حيوية المدينة من خلال تراثها الحي، مما يولد زخمًا متجددًا ومستدامًا في نسيج كان مهددًا بالاندثار".

 

مجلس العجب، فلسطين.
مجلس العجب، فلسطين.

 

ويشير تقرير لجنة التحكيم إلى أن المشروع، بهذا الشكل، "أعاد تعريف مفهوم الحفاظ العمراني، واضعًا الذكاء الجمعي للسكان في مقدمة عملية التحول، بحيث لا يقتصر العمل على المباني الأثرية فحسب، بل يشمل أيضًا التراث غير المادي باعتباره دافعاً لإحياء كل من الجانب المادي والمعنوي معًا". ولعل الميزة الأبرز للمشروع هي قدرته على إعادة تنشيط الفضاءات التاريخية عبر تدخلات صغيرة لكنها تراكمية وتدريجية، الأمر الذي أطلق طاقات اجتماعية وثقافية وبيئية واقتصادية جديدة بفضل إبداع المجتمع المحلي. كما أدخل المشروع أدوات ابتكار اجتماعي في عملية التطوير الحضري، مثل مبادرة مطعم "البامية" النسائي الذي جمع بين التمكين والمساواة والنمو الاقتصادي المحلي.

لا تقتصر أهمية هذا الإنجاز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل يؤكد اختيار مشروع إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية للفوز أن الجائزة تنظر إلى العمارة كوسيلة لإعادة بناء الثقة بين الناس ومحيطهم، وبين الماضي والحاضر. فالحفاظ على التراث هنا ليس ترفًا، بل هو خطوة أساسية لإحياء روح المكان، وتحقيق توازن بين التاريخ والتنمية الحديثة، وهذا ما جعل فوز المشروع مستحقًا باعتباره نموذجًا يُحتذى به في المنطقة العربية.

 

مجلس العجب، فلسطين.
مجلس العجب، فلسطين.

 

دروس في الصمود والابتكار من صميم العمارة
من اللافت أن يقع اثنان من أبرز المشاريع الفائزة بجائزة الآغا خان للعمارة هذا العام في منطقتين تعانيان تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية متشابكة. ففي فلسطين ومصر، لا يقتصر دور العمارة على تحسين المشهد العمراني أو ترميم المباني، بل يتعداه ليصبح أداةً للتغيير الاجتماعي، ومحركًا للفرص، ووسيلة لصياغة أمل واقعي في مجتمعات تواجه قيودًا متعددة. ففي بيت لحم، يمثل مشروع "مجلس العجب" نموذجًا حيًا لكيفية تحويل الثقافة والإبداع المحلي إلى وسيلة للبقاء والتواصل مع العالم الخارجي. أما في مصر، فيجسد مشروع إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية كيف يمكن للتراث أن يتحول من مجرد ذاكرة مادية إلى محرّك للنمو الاقتصادي والاجتماعي، ليعيد المدينة إلى قلب الحياة المحلية ويجعلها نموذجًا يُحتذى به.

إن ما يجمع المشروعين هو فلسفة ما أصبح يُعرف بـ "العمارة المقاومة"؛ وهي عمارة تتحدى التهميش، وتعيد للمكان كرامته، وللسكان رابطتهم بأرضهم وهويتهم. فبينما يربط مشروع بيت لحم الحرفيين والمصممين المحليين بمنصات تعليمية وإبداعية، مما يخلق فرص عمل ويعيد تعريف الإنتاج الثقافي الفلسطيني، تُظهر إسنا كيف يمكن للتراث العمراني أن يصبح أداة للتنمية الاقتصادية عبر برامج إعادة الترميم، وتحسين البنية التحتية، وتحفيز الصناعات الحرفية، مساهمةً بذلك في استدامة المجتمعات المحلية. وفي تصريح لأحد أعضاء لجنة التحكيم ضمن بيان الجائزة، قال: "ما نبحث عنه ليس أجمل المباني، بل أكثرها تأثيرًا في حياة الناس".

 

مركز قرية ووست ووسوتو المجتمعي، الصين.
مركز قرية ووست ووسوتو المجتمعي، الصين.

 

يُلخص هذا التصريح جوهر فلسفة جائزة الآغا خان للعمارة؛ فهي لا تقتصر على الاحتفاء بالأشكال الجمالية، بل تمتد لتشمل المشاريع التي تُحدث أثرًا ملموسًا في حياة الناس، سواء كان ذلك عبر بناء مدرسة في قرية نائية، أو إحياء مدينة تاريخية، أو تأسيس مركز ثقافي في منطقة محاصرة. فالأهمية الحقيقية تكمن في القدرة على الربط بين العمارة والإنسان والمجتمع، وليس فقط بين الحجر والبناء.

كما أن اختيار هذين المشروعين يعكس رؤية الجائزة في تسليط الضوء على النماذج القابلة للتكرار؛ وهي مشاريع قادرة على إلهام بلدان ومجتمعات أخرى في ظروف مماثلة. فمشروع "إحياء مدينة إسنا التاريخية" يقدم درسًا حول كيفية دمج الحفظ والترميم مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويُظهر كيف يمكن للمدن التاريخية أن تصبح مصدر قوة حقيقيًا، لا مجرد متحف للزوار. وفي المقابل، يقدّم "مجلس العجب" نموذجًا عمليًا لربط الإبداع المعاصر بالتراث المحلي، مُبرزًا دور العمارة كمنصة تعليمية وإنتاجية واجتماعية في آن واحد.

 

مشروع رؤية باكستان في إسلام آباد، باكستان.
مشروع رؤية باكستان في إسلام آباد، باكستان.

 

في كلا هذين المشروعين، تتحول العمارة من مجرد فعل هندسي إلى حوار اجتماعي وثقافي يربط الأجيال، ويصل الماضي بالحاضر، ويفتح آفاقًا جديدة للمستقبل. وبهذا، تؤكد جائزة الآغا خان للعمارة مجددًا أن العمارة الحقيقية لا تكمن في ضخامة المباني أو زخارفها، بل في قدرتها على إعادة إحياء المكان، وتمكين الإنسان، وغرس الأمل في المجتمعات.

ما بعد الجائزة: حين تتحول العمارة إلى وعدٍ بالمستقبل
إن الفوز بجائزة الآغا خان للعمارة ليس مجرد تكريم رمزي أو احتفاء بمشروع ناجح؛ بل هو عبور إلى فضاء أوسع من الفرص والاعتراف، وولادة جديدة للمشاريع التي تبلغ منصتها العالمية. هذه الجائزة، التي تتقاسمها المشاريع الفائزة بقيمة إجمالية تبلغ مليون دولار، تُحدِث تأثيرًا يتجاوز التمويل المادي إلى ما هو أعمق بكثير: إنها تمنح المشروع حياةً ثانية في الوعي العالمي، وتحوّل كل فكرةٍ محلية إلى مشروعٍ كوني يُدرَّس ويُحتذى به.

 

ميدان مترو جهاد بطهران، إيران.
ميدان مترو جهاد بطهران، إيران.

 

بمجرد إدراج أي مشروع في القائمة النهائية، فإنه يدخل دائرة الضوء الإعلامي والبحثي؛ حيث تبدأ الجامعات والمؤسسات المعمارية الكبرى بدراسة تفاصيله، وتتجه أنظار مؤسسات التمويل والمبادرات التنموية إليه بوصفه نموذجًا يمكن البناء عليه أو دعمه. وبذلك، تتحول الجائزة إلى منصة انطلاق نحو الاستدامة، لا إلى نهاية المطاف. والجدير بالذكر أن العديد من المشاريع السابقة، بعد نيلها الجائزة، وسّعت نطاقها الجغرافي أو استنسخت تجربتها في مدن أخرى، لتصبح بفضل هذا الاعتراف الدولي مرجعًا في التنمية العمرانية والثقافية.
لكن الأثر الأعمق، وربما الأجمل، هو ما تخلقه الجائزة في النسيج الاجتماعي للمجتمعات الفائزة. فالنجاح لا يغير مصير المبنى أو فريق العمل فحسب، بل يعيد إلى الناس إحساسهم بالفخر والقدرة. عندما يدرك المجتمع أن جهده المحلي، مهما كان بسيطًا، قد حظي بتقدير عالمي على خريطة الإبداع، ينشأ شعورٌ جماعي بأن التغيير ممكن، وأن العمارة – عندما تنبع من حاجة صادقة ورؤية إنسانية – قادرة على إعادة تشكيل صورة المكان في الذاكرة.

في فلسطين، يحمل الفوز أهمية كبيرة لـ "مجلس العجب"، ليس فقط من حيث التمويل أو الشهرة، بل كبوابة لمزيد من التعاون الثقافي والإبداعي الدولي. فالمشروع مرشح اليوم ليصبح مركزًا للتبادل الفني بين فلسطين والعالم، يستضيف ورشات عمل مشتركة ومشاريع تتجاوز الحدود، مما يفتح آفاقًا جديدة للفنانين والمصممين الفلسطينيين للتعبير عن هويتهم بأسلوب معاصر. هنا، تؤكد الجائزة على قيمة الثقافة الفلسطينية كقوة ناعمة، وتثبت أن الإبداع يمكن أن يكون أداة للبقاء والكرامة في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية.
بينما يمثل تتويج مشروع «إحياء مدينة إسنا التاريخية» في مصر لحظة محورية في مسار الحفاظ على التراث المصري الحي. وبعد هذا الإنجاز، يُنتظر أن تتجه الأنظار نحو مدن أخرى تحمل ملامح تاريخية مماثلة، حيث يمكن للسلطات المحلية والمجتمع المدني أن يستلهموا تجربة إسنا الناجحة في الجمع بين الترميم والتنمية. كما سيجذب الاعتراف الدولي بالمشروع تمويلاً ومبادرات بحثية إضافية، وقد يدفع الجامعات والمراكز الثقافية إلى إدماج هذه التجربة في مناهجها الدراسية بوصفها نموذجاً رائداً في العمارة المجتمعية والتنمية التراثية المستدامة.

 

مجمّع مجرّة وإعادة تطوير المجتمع، إيران.
مجمّع مجرّة وإعادة تطوير المجتمع، إيران.

 

لكن الأثر الرمزي للجائزة يظل هو الأبرز. فمن خلال سجلها الحافل، تؤكد جائزة الآغا خان للعمارة أن العمارة ليست مجرد منافسة في التصميم أو سعي وراء الأبراج الشاهقة، بل هي لغة للكرامة الإنسانية. إنها تحتفي بالمساحات التي تُحيي الذاكرة وتصنع المعنى، وبالتجارب التي تحوّل الطين والخشب والحجر إلى أدوات للنهضة، لا مجرد مواد للبناء. وفي عالم تتسارع فيه المدن وتزداد غربتها عن الإنسان، تأتي الجائزة لتعيد التوازن بين التقنية والروح، وبين الشكل والمضمون، وبين المكان وسكانه.

خلاصة القول، إن المشاركة في الدورات القادمة تتجاوز مجرد الطموح المهني أو فرصة للتكريم المعماري؛ إنها التزام أخلاقي وإنساني تجاه مجتمعاتنا. فكل مبادرة صغيرة، إذا انطلقت من رؤية صادقة متجذرة في السياق المحلي، يمكن أن تتحول إلى مشروع عالمي يغير حياة الناس. لقد كانت دورة 2025 دليلاً واضحاً على ذلك: مشاريع وُلدت من الحاجة المحلية، لكنها اكتسبت بعداً عالمياً لأنها آمنت بأن الجمال لا يكتمل إلا حين يخدم الإنسان. ولهذا، تظل جائزة الآغا خان للعمارة أكثر من مجرد حدث معماري؛ إنها وعد بالمستقبل وتأكيد على أن في كل مدينة وقرية وركن من هذا العالم، بذرة لفعل جميل قادرة على إعادة بناء الثقة بالإنسان، وبالقدرة الخلاقة التي تجعل من العمارة فن الأمل قبل أن تكون فن البناء.

الأكثر قراءة

الخليج العربي 12/8/2025 2:59:00 PM
روبوت يتولّى دور المذيع معتمداً على تقنيات الذكاء الاصطناعي
المشرق-العربي 12/8/2025 6:32:00 AM
تلقّى اتصالاً من قيادته الإيرانيّة في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2024، أي قبل ثلاثة أيام من سقوط الحكم السابق، طلبت منه فيه التوجّه إلى مقرّ العمليات في حيّ المزة فيلات شرقية في العاصمة صباح الجمعة في السادس من كانون الأول/ديسمبر 2024 بسبب "أمر هام".
المشرق-العربي 12/8/2025 7:07:00 AM
ألقى الشرع كلمة قصيرة بعد الصلاة قال فيها: "سنعيد بناء سوريا بطاعة الله عز وجل، وبنصرة المستضعفين، والعدالة بين الناس"
المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق