لطالما شكّلت العلاقات بين الطوائف اللبنانية المختلفة مجالًا لتجاذبات في ما بينها، تتراوح ما بين التعايش الحذر، في الحدّ الأدنى، وهو أمر مشروع، والتصادم العنيف، في الحدّ الأقصى، وهو أمر غير مشروع. ولعلّ تعالق هذه الطوائف مع قوًى إقليمية ودولية وتأثّرها بها كان من شأنه أن يذكي أوار التجاذب، وينفخ في بوق التحارب، ما يجعل التاريخ اللبناني سلسلة من الحروب، الحامية والباردة، تفصل بينها هدنات قصيرة أو طويلة، ويجعل الاستقلال مشروعاً قيد التنفيذ حتى إشعار آخر. 

من هذه العتبة، أدخل إلى كتاب "الموارنة والشيعة في لبنان" للكاتب والصحافي والمؤرّخ أنطوان سلامة، الصادر عن "دار نوفل" في بيروت؛ وفيه يُلقي الضوء على "تشكّل العصبيّتين المارونية والشيعية كقوّتين اجتماعيّتين ـ سياسيّتين ـ عسكريّتين، حافظتا، رغم تحوّلات العصر، على تماسكهما الداخلي عبر الارتكاز إلى سرديات تاريخية، ومرجعيات دينية، وحاجات أمنية متجذّرة في شعور دائم بالتهديد"، على حدّ تذييل الكتاب في الغلاف الأخير. فما الذي حدا بالمؤلّف إلى وضع هذا الكتاب؟ ولماذا فعل ذلك؟ ولماذا حصل ما حصل بين الطائفتين؟

كتاب “الموارنة والشيعة في لبنان“ لأنطوان سلامة.

الذات والآخر
يجيب سلامة عن السؤالين الأوّلين في مقدّمة الكتاب، ويحاول الإجابة عن السؤال الثالث في متنه المؤلّف من أربعة عشر فصلًا، تغطّي خمسة قرون من تاريخ العلاقة المارونية - الشيعية؛  فيعزو سبب وضعه المباشر، ضمن أسباب أخرى، إلى المواجهة الدموية التي حصلت في عين الرمانة - الطيّونة، خلال التظاهرة التي نظّمها "حزب الله" وحركة "أمل"، في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2021، احتجاجاً على أداء المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار. أمّا الغاية من وضعه فهي محاولة فهم طبيعة الصراع بين الطائفتين، والسعي إلى معرفة الذات والآخر، توخّياً لسلام وطني دائم. وهذه الأهداف النبيلة تفسّر الجهد الكبير المبذول في وضع الكتاب الذي يُحيل فيه المؤلّف إلى 212 مرجعاً ومصدراً تاريخيّاً مختلفاً، في 465 صفحة. وهو في جهده يتوخّى الموضوعية، ولا ينطق عن الهوى، فَيُورد الوقائع التاريخية مراعياً العدالة في توزيعها على الطائفتين المعنيّتين، في الشكل والمضمون. وهو متحلّل من الإيديولوجيا والأفكار المسبقة والميل مع الهوى في ما يقوم به. وبالتالي، يعرض سلامه الوقائع وفق ما يعثر عليها في مظانّها التاريخية، من دون انحياز أو تحريض أو تبرير أو تعظيم أو تبخيس وسواها من الأعطاب، ممّا يسقط فيه المؤرّخون عبر التاريخ. وهو لا ينبش في قبور التاريخ، ولا يُسقط تأويله الإيديولوجي على الأحداث، ويترك للقارئ فرصة القراءة والتفسير والتأويل. وهذه هي مهمة المؤرّخ الحقيقي.

نقاط تقاطع
يرصد سلامه في كتابه المرجعي تجاذبات العلاقة بين الموارنة والشيعة في لبنان، في محاولة منه للإجابة عن السؤال الثالث "لماذا حصل ما حصل؟"، فيغطّي في أربعة عشر فصلًا خمسةَ قرون من تاريخ هذه العلاقة، بدءاً من القرن السادس عشر وانتهاءً بالقرن العشرين، ما يعني أنّه يتناولها في مراحل تاريخية متعاقبة، تبدأ بالمرحلة المملوكية، وتمرّ بالمرحلة العثمانية بعهودها الثلاثة: الإمارة والقائمّقامية والمتصرّفية، وتنتهي بالمرحلة المعاصرة بما فيها الانتداب والاستقلال والحرب اللبنانية. ويخلص إلى وجود كثير من نقاط التقاطع بين الطائفتين؛ من قبيل: التحدّر من أصول ريفية، التحصّن في الجبال، الخصوصية الجغرافية، التكوين العشائري الإقطاعي، الهوّيّة الملتبسة مع المحيط، تحكّم الطائفية باعتبارها عصبية وظاهرة دينية وسياسية بأداء كلٍّ من المجموعتين، التطلّع إلى الخارج والتأثّر به، مواجهة الأكثرية الطائفية، التعرّض للاضطهاد في المرحلة المملوكية، قدرة كلٍّ من الطائفتين على استيعاب الضربات التي تتعرّض لها والنهوض من جديد، وغيرها. وهذه النقاط تشكّل أرضية مشتركة يمكن الانطلاق منها إلى وفاق وطنيّ يشمل جميع المكوّنات اللبنانية. 

كتاب “الموارنة والشيعة في لبنان“ لأنطوان سلامة.

نقاط افتراق
يخلص سلامة، في المقابل، إلى وجود نقاط افتراق بين الطائفتين. منها: ارتباط الموارنة بالكنيسة وأطرها الدينية المختلفة، وارتباط الشيعة بالإمامية والمرجعية والتقليد. تعدّد المرجعيات الدينية عند الشيعة، ووحدة المرجعية عند الموارنة، اختلاف الموقف من الأمير فخر الدين بين الإيجابي الماروني والسلبي الشيعي، تطلّع الموارنة نحو الغرب الفاتيكاني، وتطلّع الشيعة نحو الشرق الإيراني، استيراد الموارنة المعارف الدنيوية من روما وتصدير الشيعة المعارف الدينية إلى إيران، تعاون الموارنة مع الانتداب الفرنسي وتنابذ الشيعة معه، انطلاق البطريركية من مفاهيم جيوسياسية من أجل توسيع المتصرفية وانطلاق الشيعة من مفاهيم جيوتاريخية في تطلّعهم إلى المدى العربي، تقدّم الموارنة التربوي والمهني بفضل الإرساليات الأجنبية وتردّي الشيعة في الحرمان الرسمي، دعوة البطريركية المارونية إلى الحياد الإيجابي في مقابل انخراط الشيعة في محور المقاومة. ومن الطبيعي أن يكون لهذه النقاط تداعياتها على كلٍّ من الطائفتين. 

دروس مستقاة
وإذا كان من الصعوبة في مكان أن تحيط هذه العجالة بمئات الصفحات من الوقائع التاريخية التي يشتمل عليها الكتاب، فحسبنا الإشارة إلى دروس مستقاة منها، على سبيل المثال لا الحصر. الدرس الأول هو أنّ الصراع بين الطائفتين لم يكن يوماً طائفيّاً بل هو صراع على الأرض والنفوذ. الثاني هو أنّ نفوذ الطوائف اللبنانية المختلفة كان يستند إلى قوّة خارجية تدعم هذه الطائفة أو تلك. الثالث هو أنّ الخلاص من التجاذبات بين الطوائف يكمن في علمنة النظام السياسي، وهو ما دعا إليه بصراحة البطريرك الأسبق أنطونيوس بطرس خريش خلال حرب السنتين. الرابع هو أنّ تشريح التاريخ ضرورة لفهم الأعطاب التي تعتور الجسد اللبناني في هذه اللحظة التاريخية الحرجة ووصف العلاج الناجع لها. هذا الغيض من فيض الأسئلة التي يطرحها الكتاب يجعل قراءته من الأهمية بمكان لاستخلاص العبر من الماضي، والإفادة منها في فهم الحاضر وصناعة المستقبل. لذلك، لا تُغني القراءة عن الكتاب وقراءته، كما لا يُغني السماع عن العيان. فالكتاب هو "رحلة عبر تاريخ لبنان" محفوفة بالكثير من المتعة والفائدة. وأنطوان سلامة في كتابه يُثبت أنّه مؤرّخ بامتياز.