تطوّر المقهى: المتع والغرباء والأغاني المنسيّة

تولد الأماكن في المخيّلة أولًا. ولا بدّ أن الإنسان منذ زمن سحيق فكّر في اختراع مكان يأخذ قدرًا من حميمية البيت ولا يكون بيتًا، ويسمح بلقاء الآخرين كما يحدث في المعبد، من دون أن يكون مقدّسًا.
فالخيال خلق "المقهى" رمزًا لسحر وغموض الشرق ليقابل "الحانة" في الغرب. والاسم من مشروب القهوة الذي يتطلّب طحناً للبنّ وإعداداً في خطوات يُصعب تنفيذها في البيوت عكس بقية المشروبات.
لذلك أصبح ثمّة سبب لائق للهرب من البيت خلال القرون الثلاثة الماضية للاستمتاع بمشروب غامض ينشط الجسم والذاكرة.
المؤكد أن فضاء المقهى كان موجودًا قبل اكتشاف البنّ بأسماء أخرى ووظائف متقاربة مثل "الخان"، الذي يؤوي المسافرين ويُضيفهم.
برغم أن "الشاي" هو المشروب الأول المهيمن على المقاهي منذ عشرات السنين، وهو متاح في كلّ بيت، فلم يحمل غموضًا كي ينسب المكان إليه.
لذة المشروب
المشروب أول اللذات. مع ظهور القهوة كان هناك فتاوى تحرّم شربها قياسًا على ممنوعات أخرى سبقتها. مثلًا في رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ ـ وهو المؤرخ العظيم للمقاهي ـ يُشيّد "درويش" فضاء، فيظن أخوه الطيب "عاشور" أنه يبني بيتًا لنفسه، لكن درويش يصدمه بأنه "سيكون بيت من لا بيت له"، وسرعان ما اشتهر باسم "الخمارة"، حيث يقدم مشروب البوظة ـ تخمير بدائيّ للشعير معروف منذ زمن المصريين القدماء. في تلك الخمارة تظهر امرأة تفتن عاشور، وتبعده موقتًا عن "التكية" فضاء العبادة.
فالمقهى تمرد إنساني على المأوى العائلي ودار العبادة. فضاء لمتع بريئة ـ وغير بريئة ـ توضع في صدارته قائمة المشاريب وأسعارها بجوار صورة مؤسسه؛ فمثلما للأوطان مؤسسون، لكلّ مقهى مؤسس يجلس أسفل صورته، إذا كان ما زال على قيد الحياة.
ماذا لو كانت ثمّة قائمة سريّة كالحشيش والمواد المخدرة؟ في تلك الحال، ينأى المقهى بنفسه بعيدًا عن بيوت الناس، فينعزل ويحتاط بكلّ السبل، ولن يحتاج لافتة تدلّ عليه، بل قد يطلق عليه ضمنًا "الغرزة"، وهي كلمة مراوغة تعني الحفرة أو شكّة الإبرة.
بالتوازي، تطور التدخين من التنباك (التمباك) والشيشة والنارجيلة والحشيش إلى السجائر اللفّ وصولًا إلى السيجارة الإلكترونية.
أي أن المقهى تغيّرت مسمّياته تبعًا للموادّ التي يشربها ويتعاطاها الزبائن، بغض النظر عن الإباحة والتحريم.
فنون الأداء
المقهى بالأساس فضاء ذكوريّ، خصوصًا في الأرياف والأحياء الشعبية. وإذا استُقبلت فيه امرأة فالأمر يتطلّب قدرًا من الاستتار عن فضول الأعين.
مع ثورة 1919، وما أحدثته بديعة مصابني من ثورة في الرقص الشرقيّ، ازدهر في مصر ما يسمّى "الكازينو" أو "الملهى الليلي" أو "الكباريه"، وكلّها فضاءات متشابهة حاولت مزج خصائص الحانة والمقهى معًا، حيث تتاح الخمور والراقصات والوصلات الغنائية.
جانب آخر في التطور ليس له علاقة بطبيعة المشروبات، ولا الذكورة والأنوثة، بل بالفنون الأدائية المتاحة مثل عروض خيال الظلّ والحكواتية والقرداتي وحاملي المباخر ورواة السير الشعبية، إضافة إلى ألعاب الحظ مثل الطاولة والدومينو ولعب الورق، وكلّها قابلة لأن تتحوّل إلى قمار بتواطؤ اللاعبين.
ملايين المقاهي
تمدّد المقهى بفضل فنون الأداء والمتعة والضحك والنميمة، أو بالتطاول على الملكية العامة كالشواطئ والحدائق.
وقبل مئتي عام كان هناك من تحدّث عن ألفي مقهى في مصر، أما الآن فلربّما يزيد الرقم عن أربعة ملايين، حيث يندر ألا يكون هناك مقهى لكل خمسمئة متر في مصر.
فهو يحتل الصدارة بين مختلف الفضاءات العامة متفوقًا حتى على عدد المساجد والكنائس. إنه الفضاء الحلم؛ وبما أن رواده هم "زبائن" والزبون دائمًا على حق، فعلى إدارة المقهى توفير كلّ المتع من مشروبات وألعاب وفنون، مع التوازن الدقيق بين الهدوء والضجيج، الخصوصية والمشاركة.
فالمقهى رحلة في تطور المتع والحريات ومنافع أخرى، فتجّار القطن في زمن ازدهاره أطلقوا على مقهاهم اسم "البورصة". ورغم تلاشي تجارة القطن فما زال الاسم قائمًا هنا وهناك، والخواجات كاليونانيين أطلقوا أسماء مثل "أندريا" أو "النادي اليوناني". والطليان اكتشفوا أن متع المقهى تنقصها الحلويات فأطلقوا سلسلة "جروبي" التاريخية.
قد لا تكون المسميات ذات أهمية لكنها تشير إلى نوعية الزبائن والفروق بين المقهى الريفي والشعبي ومقاهي الأثرياء والأفندية المثقفين.
فعلى الرغم من ضيق حيّز المقهى، فإنه يبقى مرآة عاكسة لتحوّلات المجتمع، وقد يُسمح بالنقاش في السياسة وقراءة الشعر والقصص أو يمنع ذلك منعًا باتًا، بل قد ترتاب الحكومة فترسل البصّاصيين لاستطلاع الأحوال عبر ألسنة الزبائن. ومثلما تتفاوت مساحة الحرية من عصر إلى آخر، تتغير موضة المشروبات إلى "النسكافيه" و"الكابتشينو" و"الشاي المثلج".
صمت وحمام نظيف
يمرّ بين طاولات وكراسي المقهى كل أنواع الكلام، ومع ذلك ثمّة متعة في الصمت. ويعتبر الصباح المبكر حتى الظهيرة هو الزمن المفضّل للصامتين على المقاهي.
البعض يحترم أن المقهى بديل للبيت، فيوفر فيه الحمّام النظيف، ويسمح بتناول الأطعمة؛ والبعض الآخر لا يتحمّس لبقاء الزبون طويلًا، فلا يوفّر حتى "مبولة".
المقهى أكثر خطرًا من أن يكون بديلَ بيت، لأنه ـ في حقيقته ـ بديل وطن. وطن تستطيع أن تمدّ بصرك وتطئمن إلى كافة الجغرافيا الخاصّة به، تشرب وتأكل وتستمتع بمرور الزمن خفيفًا، وقد تغفو أحيانًا. كما يوفر برنامجًا للفرجة والسماع مثل محطات الأغاني ومباريات كرة القدم. وفي السبعينيات كان يتيح على أشرطة الفيديو أفلام بروس لي وناهد شريف وشويكار وشمس البارودي.
أي أن موادّ وأشكال المُتعة تتنوع وتتغير وفق زمانها وآليات تسويقها؛ فحتى المتعة التشكيلية والفوتوغرافية لا تغيب، كعرض مقولات حكيمة على لوحات صغيرة أو صور أفلام الأبيض والأسود، أو صور مشاهير مثل أم كلثوم وجمال عبد الناصر، وانتهاء بمحمد صلاح ورونالدو وميسي. كلّها اختيارات نابعة من تحيّزات صاحب المقهى، فله وحده مطلق الحرية في أن يكشف عن هويته إن كان زملكاوياً أو أهلاوياً؟
فالمقهى يحقق ـ ولو موقتًا ـ معنى الوطن، بكل المتع المتاحة، وأفضل شروط ممكنة للحرية. لعل السبب في ذلك أن كلّ من في المقهى هم غرباء و"عابرون في كلام عابر". فمهما جلست فأنت عابر، وسيأتي آخر يجلس على مقعدك. لا أحد يملك أيّ مبرّر لأيّة سلطة، بما فيها سلطة صاحب المقهى الذي يراقب بعدالة تقلّبات الحياة والوجوه.
براءة من الإثم
ربما كان محفوظ محقًا حين اعتبر المقهى/الخمارة فضاء شيطانيًا اخترعه الإنسان للغواية. وبسبب ذلك سعت ملايين المقاهي إلى نيل صكّ البراءة من الإثم، فعند سماع الأذان تغلق صوت الأغاني، وتترك المباراة تدور مع حجب صوت المعلّق، وبعضها يبالغ في تديين المقهى بتعليق صور الشعراوي وبثّ التلاوات القرآنية على مدار الساعة.
والمقهى بوصفه فضاء المتع المختلسة، عليك أن تتوقع فيه أيّ شيء: شجار بأكواب زجاج مكسورة، ومرور متسوّلين وحسناء تبيع جوارب، وعروض شركات.
أما "الكافيهات" التي تنتمي إلى سلاسل العولمة فهي نموذجية في رتابتها وارتفاع أسعارها. يسمّونها "كافيه"، لأنها لا تحبّ اللغة العربية، ولا الهوية، ولا الأغاني الطربية، ولا الألعاب، بل توفّر لك فقط تكييفاً وإنترنت ومقعداً مريحاً ومشروبات ما بعد الحداثة، تتبادلها مع صديقة.
حتى الصمت في أروقتها يبدو مدّعيًا، وما تمنحه من حرية محكوم بنمط استهلاكيّ صارم ومتباهٍ. عكس المقهى أو "القهوة الشعبية" فهناك تستطيع أن تدخّن سيجارة من دون التقيّد بزاوية معيّنة، وتغازل فتاتك عبر الهاتف، وتضحك بعلو صوتك، وتكتب قصيدة، وتدير صفقاتك، وتتلفظ بألفاظ خادشة للحياء.
أغنيات تحيط بأجسادنا
للمقهى تاريخ خاصّ في عرض الفنون، فبينما تسترخي مع مشروبك الدافئ سوف تمر عليك أفلام "لعبة الست" و"ابن حميدو" ورقصات تحية كاريوكا وسامية جمال؛ وفي السهرة بموعد ثابت تغنّي أم كلثوم على شاشة روتانا كلاسيك. تظلّ شاشة المقهى تتأرجح بك بين عصر الأبيض والأسود والزمن الملون.
وأحيانًا تُطفأ الشاشة المستقرّة على جدار مناسب كي تنساب إذاعة الأغاني وتحيط بفضاء المقهى من كل جانب. أصوات وأغنيات منسية بعضها كان يغني لمزاج ورائحة ومذاق القهوة: "أنا أهوى.. يمين يجيب لي قهوة" رائعة أسمهان بهذا التلاعب اللفظي بين "قهوة"، التي تُنطق باللهجة المصرية بالهمزة، و"أهوى" التي تعني الوقوع في الحب. كأن القهوة المشروب شرط من شروط الغرام، وكأن "القهوة" - الفضاء، الذي يتلصّص على الشوارع والبيوت، هي أفضل فرصة للعثور على حبيب يمرّ في الشارع أو يطلّ من بلكونة.
حتى في الفضاء المصريّ المتحيّز لذاته سوف يمر بالأسماع صوت سميرة توفيق بالبحة المميزة والإيقاع البدوي المتدفق "بالله تصبوا هالقهوة" كتذكير بالفارق بين طقوس القهوة البدوية والقهوة الشعبية.
هذا المشروب الساحر لا يمكن تخيّله منفصلًا عن الشعور بالمشاركة وتحسين المزاج والحب وإشارة إلى فضاء يرتبط به مثلما غنّت له فيروز "في قهوة على المفرق"، أو "قهوة وداع" لحسين الجسمي، ولا ننسى "قارئة الفنجان" لعبد الحليم؛ فلا يُقرأ الغيب والحب إلا في أعماق فنجان القهوة، و "هيلة يا هيلة" لطلال مداح تستثير كل ذكريات القهوة وجلسات السمر. إذا اعتبرنا "هيلة" من "الهيل" الذي يدخل في "تحويجة" البن".
بنبرة مرحة ساخرة غنّى المطرب الشعبي عمر الجيزاوي "اتفضل قهوة" كأنه يدعوك إلى بيت المتعة، بيت من لا بيت له، كي تنسى كل هموم الدنيا.
لا يهمّ أن يتغنى المطربون بمزاج القهوة ويذكرونها تصريحًا أو تلميحًا، بل المهم أن الغناء في المقاهي الشعبية سوف يحيط بأجسادنا ويأخذ أرواحنا في رحلة عبر الزمن والذكريات، كأن تسمع قنديل يغني "سحب رمشه ورد الباب"، ويعقبه عبد الغني السيد "ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين"، ووديع الصافي يذكّرنا ويتألّم معنا "دار يا يا دار". وبعد منتصف الليل وبرغم مطر جارف، تسمع أم كلثوم تغنّي "كان لك معايا أجمل حكاية" أو أية أغنية منسية تبكيك لألم الذكريات أو لفرط جمالها الجارح.