القهوة في الثقافة العربية... رمزيتها ومكانتها

ثقافة 17-10-2025 | 06:23

القهوة في الثقافة العربية... رمزيتها ومكانتها

القهوة حكايةُ هويةٍ وذاكرةٍ وثقافةٍ عريقةٍ عبرت من مجالس القبائل إلى مقاهي المدن، حاملةً معها رمزية الكرم والهيبة، ونكهة التاريخ.
القهوة في الثقافة العربية... رمزيتها ومكانتها
كاتيا الإيطالية في القاعة التي كان يجلس فيها نجيب محفوظ في المقهى يكتب رواياته. (النهار)
Smaller Bigger

"القهوة لا تشرب على عجل، القهوة أخت الوقت، تحتسى على مهل"، هكذا وصفها الشاعر محمود درويش، وفي الواقع، القهوة ليست مشروباً نحتسيه ليوقظ حواسنا فقط، إنما احتلت مكانة تفوق ذلك وشكلت رمزاً للهوية في الثقافة العربية، فهي طقس للضيافة تحمل رائحته عبق الكرم والحفاوة في مجالس القبائل والعائلات، وواكبت تطورات العصر، إذ تُقدَّم في اللقاءات اليومية كما في المواقف الجليلة مثل الأفراح أو العزاء، فأضحت رمزاً يجمع المتناقضات.

من العرب إلى العالم
من جبال اليمن في القرن الخامس عشر، ظهرت القهوة ومنها انتقلت إلى باقي الدول العربية، وتجاوزت الحدود، لتصبح المشروب الذي حمل اسم العرب إلى العالم؛ فكلمة coffee مشتقة من الأصل العربي قَهْوَة.
وقال الصحافي اليمني محمد الغباري لـ"النهار": "حملت القهوة تأثيراً ورمزية اقتصادية إيجابية في اليمن، لكنها تأثرت نتيجة اتساع رقعة المساحة المزروعة في أميركا الجنوبية، لكن حافظ اليمن على تميز منتجه، ولا يزال يتصدر المزادات العالمية من حيث الجودة في مختلف أنحاء العالم".

لغة القهوة: إشارات الكرم والهيبة
في المجتمعات البدوية أو الريفية، إعداد القهوة وتقديمها فعل رمزي لا يُستهان به، إذ تُغلى على نار هادئة في "الدلّة"، ويُصبّ الفنجان باليد اليمنى احتراماً للمضيف، ويُحرّك الفنجان بعد الشرب علامة على الاكتفاء، تلك التفاصيل الصغيرة تختزن منظومة قيم كاملة من الكرم والتقدير والهيبة. 

 

مشهد من مقهى الفيشاوي في القاهرة. (النهار)
مشهد من مقهى الفيشاوي في القاهرة. (النهار)

 

وأوضحت أستاذة العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية بأكاديمية الفنون، وخبيرة التراث الثقافي غير المادي باليونسكو نهلة إمام لـ"النهار"، أنّ "القهوة تحمل رموزاً مختلفة؛ فهناك قهوة العزاء والعُرس والسمر، في اليمن هناك مشروب تقليدي من قشر القهوة وليس الحبوب. أما في المجتمع البدوي فالقهوة رمز للكرم، وتُقدَّم خفيفة مغلية مع الحبهان، ويجري تدويرها على الضيوف في الفناجين، وإذا اكتفى منها الضيف ينبغي ألا يرفضها ولكن يهز الفنجان مرتين، بمعنى عدم تمريرها مرة أخرى، ومرجع ذلك لأنه جرت العادة قديما أن من يقدم القهوة في المجالس البدوية ينبغي أن يكون "أصم"، كي لا يسمع أسرار القبيلة، فكانت الإشارات وسيلة التواصل معه. وفي لبنان يحتسون "القهوة البيضاء"، وهي مشروب بماء الورد من دون كافيين، وفي الخليج يشربونها خفيفة، على عكس مصر التي تقدم فيها ثقيلة القوام، ويعلوها وجه سميك".

وأضافت إمام: "حملت القهوة رموزاً اجتماعية، فارتبط تقديمها بمجالس العزاء، ويعود ذلك إلى زمن سحيق حين صدرت فتوى من الأزهر بتحريمها؛ ما أغضب تجار البن لكونها مصدر رزقهم، فثاروا ومعهم محبو القهوة، ووقعت مشادات واشتباكات سقط فيها ضحايا، ونكايةً في العلماء الذين حرموها، أقام تجار البن صوان عزاء للضحايا وقدموا فيه القهوة، فارتبطت بالعزاء".

وأضافت: "كما تعكس القهوة والمقاهي الحالة الاجتماعية، فهناك أنواع باهظة الثمن، ومقاهي للبسطاء في الحارات الشعبية، وتعد مصر من أوائل الدول اللي عرفت المقاهي المتخصصة لكل فئة اجتماعية، مثلا مقهى للفئات الحرفية وأرباب المعاشات، ولقضاء أوقات الفراغ، وأخرى للمثقفين، ومقاهي على الطراز الحديث (الكوفي شوب)".

القهوة فضاء سياسي وثقافي... ومشروب نجيب محفوظ ومجلسه
مع تطور المدن، خرج فنجان القهوة من مجالس العائلات إلى فضاء عام جديد هو "المقهى"، في القاهرة عُد "الفيشاوي" ملتقى المثقفين والساسة، وفي بيروت كان "الهورس شو" ساحةً للنقاشات الكبرى، وفي بغداد تعتبر "الزهاوي" منبر الشعراء والمفكرين، وتحوّل المقهى إلى ملتقى سياسي وثقافي مصغر، وغدا المقهى امتداداً للمجلس التقليدي، لكنه تحلى بروح المدنية حيث تسود النقاشات العامة، وصارت هذه المقاهي شاهداً على التاريخ السياسي والثقافي، ومقعداً لذاكرة تلك المدن العريقة، ما جعلها فضاءً اجتماعياً وثقافياً.

في شارع خان الخليلي التاريخي، جلس نجيب محفوظ كل صباح، يكتب رواياته ويحتسي القهوة على مهل في مقهى "الفيشاوي" حيث تختلط رائحة البن بالتاريخ. هنا، حيث كل مقعد يحمل ذكرى، وكل طاولة تحفظ سر جلسة مضت، التقت "النهار" العمّ عاطف عبد الوهاب، أقدم العاملين بالمقهى منذ 1986، ويعرف تفاصيله ومرتاديه، وأخبرنا أن مؤسس مقهى الفيشاوي كان فتوة منطقة الجمالية.

 

مشهد من مقهى الفيشاوي في القاهرة. (النهار)
مشهد من مقهى الفيشاوي في القاهرة. (النهار)

 

يتحدث بصوت يفيض بالحنين وهو يصحبنا إلى القاعة الصغيرة التي كان يجلس فيها أديب نوبل، والتي كتب رواياته فيها، ثم يروي ذكرياته مع محفوظ: قائلاً: "كان يأتي في الثامنة صباحاً ويغادر في الثانية ظهراً، ومشروبه المفضل هو القهوة التي أقدمها له وأتركه وأغلق عليه الباب، إذ كان قليل الكلام، ويفضل الهدوء طالما عكف على الكتابة، وكان دائماً يجلس بمفرده، لكن في أواخر أيامه كان يجلس معه جمال الغيطاني".

ثم يشير عاطف إلى الصور المعلقة على الجدران لمرتادي المقهى، وأبرزهم: جمال عبد الناصر وأنور السادات وبطرس غالي وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم. ويتحدث عن الزبائن بعين خبرت النفوس قبل الأكواب: "هناك أشخاص يستريحون نفسياً في الجلوس في المقهى لساعات من دون ملل؛ بسبب أجواء المكان وروحانياته".

أما في اليمن، فكانت المقاهي عبر تاريخها ملتقى السياسيين والشعراء والأدباء. وأوضح محمد الغباري: "ارتبط احتساء القهوة العربية بهذه التجمعات التي غدت أشبه بمنتديات سياسية. أبرزها، مقهى "سمسرة وردة" التاريخي في صنعاء، وهو قبلة المثقفين والسياسيين وطلاب الجامعة والصحافيين والناشطين، ومن المقاهي الحديثة هناك "حراز كافيه"، ويرتاده المسؤولين والسياسيين والديبلوماسيين، كما انتشرت المقاهي الحديثة التي تقدم القهوة بالطريقة الأوروبية إلى جانب العربية لجذب الشباب".

سفير فوق العادة
يمتدّ تأثير القهوة إلى ثقافاتٍ أخرى، وبين عشاقها من ذاقوها لأول مرة، مثل كاتيا فوليا، سائحة إيطالية تعمل في مجال الدعاية، وقعت في غرام القهوة العربية منذ أول فنجان تذوقته في مصر.

تقول كاتيا لـ "النهار"، وهي تتأمل فنجانها بشغف: "القهوة العربية مختلفة تماماً عن تلك التي أحتسيها في إيطاليا، فالبن أنقى وأفضل، ولا يترك رواسب مثل الإيسبريسو الذي يُشعرك أحياناً بمذاق التراب في فمك. حتى حين تُشرب من دون سكر، تحمل مرارة لطيفة ونكهة نظيفة ومحببة، وبها توازن بين الطعم والرائحة يجعل التجربة فريدة".

 

كاتيا الإيطالية التي أسرها مذاق القهوة العربية. (النهار)
كاتيا الإيطالية التي أسرها مذاق القهوة العربية. (النهار)

 

وهكذا، تثبت القهوة العربية أنها سفير فوق العادة وتجربة ثقافية وروحية، وسحرها لا يتوقف عند أبناء المنطقة، بل يمتد ليأسر ذائقات من ثقافات أخرى.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 10/17/2025 6:20:00 AM
"وقهوة كوكبها يزهرُ … يَسطَعُ مِنها المِسكُ والعَنبرُوردية يحثها شادنٌ … كأنّها مِنْ خَدهِ تعصرُ"
ثقافة 10/17/2025 6:22:00 AM
ذلك الفنجان الصغير، الذي لا يتعدّى حجمه 200 ملليليتر، يحمل في طيّاته معاني تفوق حجمه بكثير
ثقافة 10/17/2025 6:23:00 AM
القهوة حكايةُ هويةٍ وذاكرةٍ وثقافةٍ عريقةٍ عبرت من مجالس القبائل إلى مقاهي المدن، حاملةً معها رمزية الكرم والهيبة، ونكهة التاريخ.
ثقافة 10/17/2025 6:18:00 AM
من طقوس الصوفيّة في اليمن إلى صالونات أوروبا الفكرية ومقاهي بيروت، شكّلت القهوة مساراً حضارياً رافق نشوء الوعي الاجتماعي والثقافي في العالم.