القهوة العربية: تقاليد تُحكى في كل رشفة

ثقافة 17-10-2025 | 06:22

القهوة العربية: تقاليد تُحكى في كل رشفة

ذلك الفنجان الصغير، الذي لا يتعدّى حجمه 200 ملليليتر، يحمل في طيّاته معاني تفوق حجمه بكثير
القهوة العربية: تقاليد تُحكى في كل رشفة
مقهى (ذكاء اصطناعي)
Smaller Bigger

كنتُ دائماً أنتظر اللحظة التي يتقدّم فيها شاب لخطبتي، لا لأرى خاتماً أو أسمع كلماتٍ منمّقة، بل لأُعدّ له فنجان القهوة… تلك القهوة التي أضيف إليها، عن قصد، ملعقة صغيرة من الملح بدل السكر. ثم أراقبه بصمت: هل سيتمكّن من شربها؟ إن فعل، دلّ ذلك على قدرته على تحمّل مرارة الحياة وملوحتها، وصبره على تقلباتها.

هذه العادة ليست غريبة، فهي مستوحاة من التقاليد التركية القديمة المعروفة باسم "قهوة العريس المالحة"، التي تجاوزت حدود تركيا لتصبح عادة رائجة في معظم بلدان الشرق الأوسط، تنتظرها الفتيات كاختبار رمزيّ لمدى صبر العريس وصدق نيّته.

لكن "قهوة العريس المالحة" لم تكن العادة الوحيدة التي طبعت علاقتي بالقهوة. ففي عام 2014، كانت وجهتي الأردن لحضور خطوبة شقيقي، وكالعادة كانت القهوة الحاضرة الدائمة والمرافقة لكل جلسة. لكن تلك المرّة، كادت القهوة أن تتسبّب لي بسكتة قلبية صغيرة!
لم أكن أعلم حينها بعاداتهم في تقديم القهوة، وأن هزّ الفنجان الفارغ يعني طلب مزيد منها. وكنت، كلما أنهيت فنجاني، أهزّه تلقائياً ظنًّا مني أنني أقول بذلك "شكراً اكتفيت"، بينما كنت في الواقع أطلب مزيداً من دون أن أدري!

استمرّ الأمر حتى وصل عدّادي إلى الفنجان الخامس، قبل أن أكتشف الحقيقة حينما سألت مازحة الشاب الذي يقدّم القهوة عن السبب، فابتسم وأوضح لي المعنى. عندها فقط أدركت أن في كل بلدٍ للقهوة لغتها الخاصة، وأن سوء الفهم معها… قد يكون لذيذاً أحياناً.

ذلك الفنجان الصغير، الذي لا يتعدّى حجمه 200 ملليليتر، يحمل في طيّاته معاني تفوق حجمه بكثير. فهو ليس مجرّد مشروب، بل رمز للكرم والأصالة، ولسانٌ يروي حكايات الشعوب وعاداتها.

 

في العالم العربي، تحتل القهوة مكانةً خاصة، فهي جزء من الهوية والحضارة، وحاضرة في أدقّ تفاصيل الحياة اليومية والمناسبات الرسمية على حدٍّ سواء. تُقدَّم في الأعراس والجلسات العائلية والأعياد، وحتى في الاجتماعات الكبرى ولقاءات رؤساء الدول والقادة.

في مصر، تشكّل القهوة جزءاً من إيقاع الحياة اليومية، إذ يجتمع الناس حولها في المقاهي الشعبية، وتُقدَّم سادة في العزاء ومناسبات الحزن احتراماً للموقف، بينما تُقدَّم محلّاة أو وسطاً (مظبوطة)  في اللقاءات الاجتماعية. أما في الصعيد، فالقهوة تُقدَّم أولاً للضيف كرمزٍ للترحيب والأمانة.

وفي دول الخليج العربي تحديداً، تُعدّ القهوة العربية ركناً أساسياً من تقاليد الضيافة، تُقدَّم بفخرٍ مع التمر، ويُراعى في تحضيرها وتقديمها أدقّ التفاصيل، من حركة اليد أثناء الصبّ إلى ترتيب الجلسة ونغمة الترحيب. فهناك، لا يُقاس الكرم بكمّ القهوة في الفنجان، بل بحرارة الترحيب التي ترافقها. فكلمة "يعطيك العافية" أو "تسلم" هي العلامة على الاكتفاء من القهوة.

وللقهوة في تاريخ العرب وجهٌ آخر، يتجاوز الضيافة والمجالس اليومية، إذ كانت رمزًا للنفير العام عند القبائل. ففي البادية، لم تكن القهوة تُقدَّم عبثاً، بل كانت طقساً ذا دلالة اجتماعية وسياسية.

فعندما كانت تُغلى القهوة في "الدلّة الكبيرة" ويُذاع عطرها في أنحاء المضارب، كان ذلك إشارة إلى اجتماع أو استنفار، سواء لحلّ نزاعٍ أو للذهاب إلى حربٍ أو نجدةٍ. وكان الرجال يعرفون من رائحة القهوة أن أمراً جللاً قد حدث، فيتوافدون إلى المجلس من دون دعوةٍ أو نداءٍ.

أما في ليبيا، فللقهوة — المعروفة باسم "القهوة الليبية" — طقوسها الخاصة التي تعكس عمق الرمزية في الثقافة المحلية. ففي جلسة الضيافة الواحدة، تُقدَّم ثلاثة فناجين متتالية لكل ضيف: الفنجان الأول (مرّ): يرمز إلى بداية الحياة وصعوبتها، الفنجان الثاني (متوسّط المذاق): يشير إلى نضج الإنسان وتوازنه. الفنجان الثالث (حلو): يعكس صفاء النهاية ورضا التجربة.

ويُرافق هذا الطقس عادةً أحاديث طويلة وطقوس تقليدية، وقد يُقدَّم مع اللوز أو التمر أو الفول السوداني حسب المنطقة، وتُحضّر القهوة غالباً على الرمل الساخن لإكسابها نكهة مميّزة وفريدة.

وفي النهاية، تظل القهوة، مرّة كانت أم حلوة، رفيقة للإنسان في كل مرحلة من حياته؛ مرآة للمرارة والصبر، وحلاوة التجارب التي تمنح الرضا. فكل فنجان يحمل حكاية، وكل رشفة تُخبر عن تقاليدنا وهويتنا، لتظل القهوة لغة مشتركة تجمع القلوب رغم اختلاف البلدان والأجيال.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

ثقافة 10/17/2025 6:10:00 AM
تُعدّ المقاهي الشعبية البيروتية مرآة دقيقة لتحوّلات المشهد الاجتماعي والثقافي للمدينة (1950–1970).
ثقافة 10/17/2025 6:15:00 AM
هذا المشروب الساحر لا يمكن تخيّله منفصلًا عن الشعور بالمشاركة وتحسين المزاج والحب.
ثقافة 10/17/2025 6:17:00 AM
المقهى.. أكثر من مجرد قهوة: تجربة حياة كاملة
ثقافة 10/17/2025 6:12:00 AM
كان الـ "هورس شو" في بناية المرّ قاطرة القافلة التي ضمت مقاهي الـ "إكسبرس" في بناية صباغ، و"مانهاتن" في بناية فرح، ثم مقاهي "نيغرسكو" و"ستراند" و"الدورادو" و"كافيه دو باري" و"مودكا" و"ويمبي" وغيرها.