من الكهنوت إلى هوليوود… قصة مارتن سكورسيزي في وثائقي

ثقافة 08-10-2025 | 14:16

من الكهنوت إلى هوليوود… قصة مارتن سكورسيزي في وثائقي

"السيد سكورسيزي"… بورتريه جديد يكشف الوجه الإنساني لعملاق السينما.
من الكهنوت إلى هوليوود… قصة مارتن سكورسيزي في وثائقي
المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي. (أ ف ب)
Smaller Bigger

مارتن سكورسيزي، الشاب النيويوركي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح كاهناً قبل أن يغدو أحد أكثر المخرجين تأثيراً في تاريخ السينما، هو محور سلسلة وثائقية جديدة من خمسة أجزاء أخرجتها ريبيكا ميلر. تحمل السلسلة عنوان "Mr. Scorsese" (السيد سكورسيزي) وتُعرض لأول مرة في 17 تشرين الأول/أكتوبر على منصة "+Apple TV".

تقدّم السلسلة "بورتريه سينمائياً لرجل من خلال عدسة أعماله"، مستكشفةً كيف شكّلت تجارب حياة سكورسيزي رؤيته الفنية. يفتح لميلر أرشيفه الشخصي، وتغوص بمجموعة واسعة من المقابلات معه ومع المقربين منه، لتنسج صورة حيّة، محبوكة بإتقان، شديدة الإمتاع، لأحد أعمدة السينما. والنتيجة؟ احتفاء بإرث سكورسيزي، وفحص صادق للقوى التي شكّلت أفلامه: من الإيمان والعائلة، إلى الشغف والفن.

الإيمان، الذنب، واكتشاف الرسالة
منذ البداية، تتعمّق السلسلة في نشأة سكورسيزي الدينية والإيمان الذي كاد يقوده إلى الكهنوت. في الحلقة الأولى، يتأمل المخرج (82 عاماً) دخوله معهداً كاثوليكياً وهو مراهق، قبل أن يُطرد "لأنّه تصرّف بسوء"، كما يقول. "كنت على ما يرام في الأشهر الأولى، لكن شيئاً ما حدث. بدأت أدرك أنّ العالم يتغيّر"، يتذكّر سكورسيزي، مشيراً إلى انجذابه لموسيقى الروك آند رول والرومانسية المراهقة التي جعلته يشعر بأنه "لا يمكنك أن تعزل نفسك عن الحياة". وفي النهاية، كما يوضح، "أدركت أنني لا أنتمي إلى هناك".

 

بوستر سلسلة “السيد سكورسيزي“. (+Apple TV)
بوستر سلسلة “السيد سكورسيزي“. (+Apple TV)

 

تتبّع السلسلة كيف وجدت أسئلته الروحية لاحقاً تعبيرها في السينما: فبعد عقود، سيحوّل هذه التساؤلات إلى أعمال مثل "الإغواء الأخير للمسيح" (The Last Temptation of Christ) و"الصمت" (Silence)، بل وسيستكشف البوذية في فيلم "كوندن" (Kundun). وتُبرز ميلر الإيمان كخيط ناظم في مسيرة سكورسيزي، مشيرةً إلى أن "الرحلة الروحية كانت في صميم حياته كلها"، حتى عندما بدت عوالمه العنيفة أو البذيئة على الشاشة بعيدة عن التقوى. ويظهر التوتّر بين المقدّس والدنيوي كمحور رئيسي في السلسلة، مظهراً كيف غذّت معاركه مع الذنب والأخلاق والخلاص فنّه.

من "ليتل إيتالي" إلى هوليوود
ترسم السلسلة صورة حيّة لحياة سكورسيزي المبكرة، كاشفةً كيف تحوّل صبي كاثوليكي من حيّ "ليتل إيتالي" النيويوركي إلى مخرج مبدع. ويستعيد سكورسيزي وأصدقاؤه طفولتهم في نيويورك الخمسينيات، وسط شوارع قاسية و"رجال مافيا". كان الربو يحبس "مارتي" الصغير داخل المنزل، ولكن في ذلك كانت نعمة مستترة، إذ كان والده يصطحبه إلى دور السينما المكيّفة لتحسين تنفّسه، ما أشعل شغفه بالفن السابع. في مشهد مؤثر، يوضح سكورسيزي كيف كان يقضي ساعات محدّقاً من نافذة شقّته إلى الحياة في الشارع أدناه؛ "لهذا أحبّ اللقطات من الأعلى"، يقول مازحاً. حتى المخرج سبايك لي يمزح في الوثائقي قائلاً: "الحمد للّه على الربو"، مشيراً إلى أنه لولا مرضه لما امتلك العالم تلك العين السينمائية الفذّة.

 

قصة حياة مارتن سكورسيزي في الوثائقي. (+Apple TV)
قصة حياة مارتن سكورسيزي في الوثائقي. (+Apple TV)

 

يتتبّع البورتريه رحلة سكورسيزي من هذه الجذور المتواضعة إلى بداياته الفنية. نراه يرسم القصص المصورة ويصوّر أفلام 8 ملم مع أصدقاء يشيرون إلى كاهن محلي شجعهم على "التعليم" ومغادرة الحيّ. وكان طريق سكورسيزي للخلاص هو مدرسة السينما بجامعة نيويورك، حيث تبدأ السلسلة بمتابعته وهو يشقّ طريقه إلى الصناعة. تسلط السلسلة الضوء على محطاته التكوينية: عمله تحت إمرة روجر كورمان في "Boxcar Bertha"، ثم نصيحة مرشده جون كاسافيتيس بأن يصنع أفلاماً شخصية. هذه النصيحة قادته إلى فيلم "الشوارع الخلفية" (Mean Streets) عام 1973، الدراما النيويوركية التي جمعت لأول مرة بينه وبين الممثل روبرت دي نيرو وأعلنت قدوم صوت سينمائي فريد في السبعينيات.

من هناك، تستعرض السلسلة بسرعة فيلموغرافيا سكورسيزي الواسعة، مركزة على أعماله المفصلية: من العنف الحضري المكثف في "سائق التاكسي" (Taxi Driver)، إلى مأساة الملاكم الملحمية في "الثور الهائج" (Raging Bull)، وصولاً إلى ملحمة المافيا الأنيقة "رفاق طيبون" (Goodfellas).

 

مارتن سكورسيزي في موقع تصوير فيلم “عصر البراءة“ عام 1993. (Alamy)
مارتن سكورسيزي في موقع تصوير فيلم “عصر البراءة“ عام 1993. (Alamy)

 

يُذكّرنا وثائقي ميلر بأنّ أحداً لا يشبه مارتن سكورسيزي، ويُبرز كيف أعاد المخرج صياغة لغة السينما من خلال مزيج فريد من التأثيرات والأساليب. تستعرض السلسلة تقنياته المميزة التي طبعت أعماله: لقطات التتبّع السريعة المفعمة بالتوتر، التجميد المفاجئ للمشاهد، الإيقاعات الصاخبة لموسيقى الروك الكلاسيكية، والحوار الجريء (والبذيء) الآتي من قلب شوارع نيويورك. وتُظهر كيف أنّ هذه العناصر هي امتداد مباشر لجذوره وتجربته الشخصية، فذلك الصبي المصاب بالربو الذي كان يراقب الحياة من نوافذ "ليتل إيتالي" لم يغادر أفلامه قطّ.

انتصارات، أزمات، وتحولات
لا تكتفي السلسلة بالاحتفاء بالنجاحات، بل تتناول أيضاً إخفاقات سكورسيزي ولحظاته المظلمة بصراحة. ترصد فترة أواخر السبعينيات عندما كاد أن يُغرق نفسه بالإدمان واليأس بعد فشل فيلم "نيويورك، نيويورك" (1977). تتناول السلسلة انهياره ودخوله المستشفى إثر جرعة زائدة كادت تودي بحياته، وفقدانه الثقة بمستقبله. لكن الإنقاذ جاء من روبرت دي نيرو الذي زاره وأقنعه بتحويل سيرة ملاكم متقشّف إلى فيلم، وهكذا وُلد "الثور الهائج" (1980)، وشكّل نقطة التحول التي أنقذ فيها الفن حياة سكورسيزي.

 

مارتن سكورسيزي على السجادة الحمراء. (أ ف ب)
مارتن سكورسيزي على السجادة الحمراء. (أ ف ب)

 

كما تتناول السلسلة الجانب الإنساني لمسيرته، إذ يتحدّث أفراد أسرته، ومن بينهم بناته الثلاث، عن أثر انغماسه الكامل في السينما عليهم. تقول ابنته الوسطى دومينيكا إنها لم تشعر بانتباه والدها الكامل إلا عندما شاركت كممثلة مراهقة في فيلمه "عصر البراءة" (The Age of Innocence)، بعدما غاب عنها في طفولتها لانشغاله الدائم. ويظهر كيف أنّ شغف سكورسيزي بالسينما لم يفرض تضحيات عليه فحسب، بل على من حوله أيضاً: زيجات انهارت، وأطفال كبروا في غيابه. ومع ذلك، تكشف السلسلة عن لحظات مصالحة وتفهّم، إذ تُبدي بناته قبولاً لا غضباً، في لحظات اعتراف شخصية تضيف عمقاً عاطفياً للبورتريه، جامعة بخيط رفيع بين العزلة والذنب التي يعيشها أبطال أفلامه وتجارب حياته الشخصية.

وبالطبع، لا يكتمل أي سرد لسكورسيزي من دون استعراض نجاحاته المظفرة وتأثيره الدائم على السينما. وترصد السلسلة كيف نهض بعد إخفاقات، مركزة على الجدل المحيط بـ"الإغواء الأخير للمسيح" (1988) الذي واجه احتجاجات دينية عنيفة، ما اختبر عزيمته وأكّد التزامه بالأعمال الإشكالية. وتتابع كيف تجاوز سلسلة من الإخفاقات التجارية في التسعينيات، ليُحقّق انطلاقة جديدة عبر شراكته مع ليوناردو دي كابريو في الألفية الجديدة.

 

مارتن سكورسيزي وليوناردو دي كابريو. (أ ب)
مارتن سكورسيزي وليوناردو دي كابريو. (أ ب)

 

يُعدّ سكورسيزي أحد أبرز من صاغوا الإرث السينمائي لدي كابريو، وبمجموعة أفلام مثل "الطيار" (The Aviator)، "المغادرون" (The Departed)، "جزيرة شاتر" (Shutter Island)، و"ذئب وول ستريت" (The Wolf of Wall Street) قدّم نفسه لجيل جديد وأثبتت قدرته على التطور مع الزمن.

وتشير السلسلة إلى أنّ تعاونه مع دي كابريو منحه أول "أوسكار" في مسيرته عام 2007 عن "المغادرون". وتؤكّد ميلر أنّ سكورسيزي لم يفقد حيويته الإبداعية قط؛ ففي الحلقة الأخيرة نراه، في عقده التاسع، يرسم "الستوري بورد" لفيلمه "قتلة زهرة القمر" (Killers of the Flower Moon) وكأنه الطفل نفسه الذي كان يصوّر أفلاماً وهمية في منزل والديه.

بورتريه أسطورة واستقبال مهيب
تجمع مقاربة ريبيكا ميلر بين الشمولية والحميمية في تصوير سيرة "السيد سكورسيزي". تتجنّب عمداً سرداً زمنياً جافاً، موضحة أنّ الفيلم "ليس فيلماً تسجيلياً تقليدياً للأعمال، بل عن رقصة بين المخرج والفنان والإنسان؛ كيف صنع الرجل أفلامه، وكيف صنعته الأفلام". ولهذا يتنقل "السيد سكورسيزي" بين الحياة والفن: من نظرة صبي من نافذة بناية إلى تشكيل عينه السينمائية، إلى تسرّب الندم والعلاقات الحقيقية إلى شخصياته.

 

مارتن سكورسيزي يتوسط آل باتشينو وروبرت دي نيرو. (رويترز)
مارتن سكورسيزي يتوسط آل باتشينو وروبرت دي نيرو. (رويترز)

 

ليس عبثياً أن يفتتح ستيفن سبيلبرغ الوثائقي بقوله "لا يوجد سوى مارتن سكورسيزي واحد"، مكرساً الفيلم كتقدير من مخرج إلى آخر. وعلى امتداد السلسلة، يقدّم مخرجون وممثلون مثل براين دي بالما، بول شريدر، روبرت دي نيرو، ليوناردو دي كابريو، وكيت بلانشيت وغيرهم، حكايات تكشف جوانب من شخصية سكورسيزي وعمق إبداعه.

تكشف المراجعات الأولى الآتية من مهرجان نيويورك السينمائي أنّ السلسلة لامست وتراً حساساً، إذ أثنى النقاد على نبرتها الحميمية والواضحة في آنٍ. وقد نجحت "Mr. Scorsese" في مهمتها: استعادة أسطورة مارتن سكورسيزي وتقديمها لجمهور قديم وجديد، وتقديمه نفسه فناناً مخلصاً، طالباً كهنوتياً سابقاً، مؤثّراً في السينما، ورب عائلة، بكل تعقيداته.

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت
لبنان 10/7/2025 1:51:00 PM
في اتصال لـ"النهار" مع وكيل هذه العائلات المحامي محمد حبلص أكد أن ملف هذه العائلات يحظى بمتابعة من الوزير الحجار واللواء شقير "على عكس التجارب السابقة مع مسؤولين آخرين"