أرشيف أنطوان ولطيفة ملتقى... ذاكرة مسرح طليعي تعود إلى الضوء في المكتبة الشرقية

ثقافة 07-10-2025 | 17:18

أرشيف أنطوان ولطيفة ملتقى... ذاكرة مسرح طليعي تعود إلى الضوء في المكتبة الشرقية

أرشيف أنطوان ولطيفة ملتقى يُمنَح إلى المكتبة الشرقية، في محطة مفصلية في توثيق المسرح اللبناني الحديث.
أرشيف أنطوان ولطيفة ملتقى... ذاكرة مسرح طليعي تعود إلى الضوء في المكتبة الشرقية
أنطوان ولطيفة ملتقى. (أرشيف العائلة)
Smaller Bigger

في مسرح "بيريت" التابع لمعهد الدراسات المسرحية والسمعية والبصرية والسينمائية (IESAV) في جامعة القديس يوسف - بيروت (USJ)، يُضيء مساء اليوم فصل جديد من ذاكرة المسرح اللبناني. لا نتكلّم هنا على احتفال أرشيفي آخر، إنّما لقاء بين الحاضر والماضي، وبين ما صيغ على الخشبات في زمنٍ طليعي ريادي، وما يُصان اليوم في المكتبة الشرقية ككنزٍ معرفي وفنّي لأجيالٍ مقبلة.

مساءً، تُقدّم عائلة أنطوان ولطيفة ملتقى أرشيفهما إلى المكتبة الشرقية، في محطة محورية في توثيق بدايات المسرح اللبناني الحديث وترسيخ أثر رائدَين أسّسا لمرحلة فنية وثقافية استثنائية.

إرثٌ يتجاوز الشخصي إلى الجماعي
لا يُمكن النظر إلى أنطوان ولطيفة ملتقى على أنّهما اسمَيْن عابرَيْن في تاريخ المسرح اللبناني؛ إنّهما من روّاد النهضة المسرحية التي انطلقت منذ خمسينيات القرن الماضي، في مرحلةٍ كانت بيروت فيها تتنفس ثقافةً وتختبر حداثتها. أسّس أنطوان، الممثل والمخرج والكاتب، مع لطيفة، شريكته في الحياة والإبداع، رؤيةً فنية متجذّرة في اللغة العربية وفي الحساسيات المعاصرة. وشكّل عملهما جسراً بين التراث والمسرح التجريبي، وتجربةً جمعت الهويات المحلية بالآفاق العالمية، مسهمَيْن في تكوين جيلٍ كامل من المسرحيّين والمبدعين.

أسّس أنطوان ولطيفة ملتقى عام 1961 أوّل جمعيّة مسرحيّة في لبنان تحت اسم "حلقة المسرح اللبناني" (Le Cercle du théâtre libanais)، وكانت أوّل جمعيّة مسرحيّة حازت موافقة وزارة الداخليّة عام 1963. وقد ضمّت اللجنة التي كانت تدير "الحلقة"، إلى جانب الشريكَيْن، كلّاً من ميشال بصبوص، وإدوار أمين البستاني، وناظم جبران، وفرانسوا خوري.

بين عامَي 1961 و1965، وبالتعاون مع ميشال بصبوص وبمبادرة من أنطوان ملتقى، أسّست "حلقة المسرح اللبناني" مهرجان راشانا، حيث كانت تقدّم عروضها المسرحية. وكان أهالي القرية يساهمون في التنظيم التقني للعروض التي كانت تُقام في الهواء الطلق. وتشير الأستاذة المحاضرة في العلوم المسرحية في معهد IESAV البروفسورة ماريان نجيم إلى أنّ ملتقى قدّم في راشانا عام 1963 عرضاً مسرحياً مدهشاً مقتبساً من رواية دوستويفسكي "الجريمة والعقاب"، مستخدماً سينوغرافيا ضخمة أعادت بناء مشهد قرية كاملة في العراء. وتشرح لـ"النهار" أنّه "أُتيح يومذاك للجمهور أن يتنقّل بين مشاهد عدّة تُقدَّم في الوقت نفسه، بينما استُخدمت تقنيات سينمائية ضمن عناصر الإخراج، ما منح العرض طابعاً بصرياً مبتكراً وغير مسبوق في المسرح اللبناني آنذاك".

حضر وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ لاحقاً تسجيلاً لهذا العرض، ودعا أنطوان ولطيفة ملتقى للمشاركة في مهرجان نانسي، حيث قدّما عام 1965 مسرحية "الإزميل" للكاتب أنطوان معلوف. وبعد ذلك، قدّما عروضاً في عدد من الدول العربية، وفق نجيم.

 

دعوة المكتبة الشرقية لحضور حفل تسليم الأرشيف. (المكتبة)
دعوة المكتبة الشرقية لحضور حفل تسليم الأرشيف. (المكتبة)

 

المكتبة الشرقية حاضنة الذاكرة
يُشكّل الأرشيف الذي سُلّم للمكتبة الشرقية ذاكرة متكاملة لمشروعٍ ثقافي. يضمّ مخطوطات نادرة، مسوّدات مكتوبة بخط اليد، كتباً، أفلام "نيغاتيف"، صوراً توثّق لحظات على الخشبة وخارجها، وتسجيلات سمعية وبصرية تحفظ أصواتاً ورؤى من زمنٍ بات جزءاً من التاريخ الحيّ للمسرح اللبناني.

ويؤكّد مدير المكتبة الشرقية التابعة للجامعة جوزيف رستم أنّ الأرشيف سيكون متاحاً للجمهور "مجاناً وبصيغة رقمية، بعد الانتهاء من فرزها وفهرستها وحفظها وأرشفتها رقمياً"، ويعتبر في حديث لـ"النهار" أنّ "هذا الأرشيف الاستثنائي لاثنين من روّاد المسرح الحديث والتلفزيون في لبنان، يروي حكاية وطن وحقبة من أكثر سنواته تألّقاً وصعوبة".

يُقام الحفل برعاية وحضور رئيس الجامعة البروفسور سليم دكّاش اليسوعي، ومدير المكتبة الشرقية الدكتور جوزف رستم، ومدير "IESAV" الدكتور توفيق خوري، وبمشاركة المتبرّعين: الدكتور جيلبير ملتقى، الفنان زاد ملتقى، والدكتورة جيهان ملتقى. هذا التعاون بين العائلة والمؤسسة الأكاديمية يرمز إلى تقاطع الذاكرة الفردية مع الحاضنة العلمية، حيث يتحوّل الإرث العائلي إلى مادة بحثية وإبداعية متاحة للدارسين والفنانين، في فعل حفظٍ من أجل إعادة الحياة للذاكرة، لا من أجل تحنيطها.

مختبر مسرحي لبناني رائد
تُعدّ لطيفة ملتقى من أوائل المخرجات المسرحيات في لبنان. تركت مهنة المحاماة لتكرّس حياتها للمسرح، تمثيلاً وإخراجاً وتعليماً. من أبرز أدوارها على الخشبة: دور الأم في مسرحية "عرس الدم"، وهي اقتباس عن عمل لفيديريكو غارثيا لوركا عُرض في إهدن عام 1964، ودور الساحرة في مسرحية "الكوخ المسحور" التي أخرجها شكيب خوري عام 1974. أما في مجال الإخراج، فقدّمت عدداً من الأعمال اللافتة، من بينها: "أنا ناحب"، "يوم تاريخي في حياة العالم يو"، "حرب بالطابق الثالث"، "وصيّة كلب"، "مهاجر بريسبان"، وغيرها.

تشرح نجيم أنّ الثنائي "عملا وابتكرا على ثلاثة مستويات أساسية: تدريب الممثل، والسينوغرافيا، وتكييف المسرح العالمي مع الثقافة اللبنانية". في المسارح التي أسّساها، مثل "مسرح الأشرفية" و"المسرح التجريبي" و"مسرح مارون النقاش"، بحثا عن أشكال مسرحية قريبة من الثقافة الشرقية، تكسر ما يُعرف بـ"الجدار الرابع"، وفق نجيم، مثل المسرح في الهواء الطلق، والمسرح الدائري، والمسرح ثنائي الواجهة، والمسرح رباعي الواجهات. كما قدّما عام 1965 أول عرض مسرحي باللهجة اللبنانية المحكية، من خلال اقتباس لمسرحية "الجرّة المكسورة" لهاينريش فون كلايست، تحت عنوان "ضاعت الطاسة". ومن خلال هذه المسرحية، قادا أول تجربة مسرح جوّال في لبنان، حيث عُرضت في القرى والمخيّمات الصيفيّة للشباب، بدعوة من جوزف دوناتو، الذي كان يترأس "مصلحة الإنعاش الاجتماعي".

كذلك، نظّمت "حلقة المسرح اللبناني" في مسرح الأشرفية في نيسان/أبريل 1966 سلسلة من الندوات حول صعوبات وخصوصيات المسرح في لبنان. كما مثّل أنطوان ملتقى لبنان في مؤتمر المسرح العربي الحديث الذي عُقد في الحمّامات عام 1965. و"الأهم من ذلك كلّه"، بالنسبة لنجيم، "أنّهما أسّسا عام 1965 قسم المسرح في الجامعة اللبنانية، الذي تولّى أنطوان إدارته حتى عام 1996، ووضع برامجه الأكاديمية بالتعاون مع أساتذة آخرين. وقد درّس كلّ من أنطوان ولطيفة في هذا القسم من عام 1965 حتى 1996، وأسهما معاً في تخريج أجيال متعاقبة من الممثلين والممثلات في لبنان".

لا يُمكن اختصار أثر لطيفة وأنطوان ملتقى على المشهد الثقافي اللبناني ببضعة أسطر، إذ كان إسهامهما في المسرح اللبناني ريادياً وجوهرياً على مستويات عدّة، أولها احتراف التمثيل والإخراج المسرحي، ووضع أسس مهنية للمجالَيْن في لبنان، بالإضافة إلى "اللامركزية والانفتاح"، وفق نجيم، من خلال إيصال المسرح إلى مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية اللبنانية، خارج النطاق التقليدي للمسارح في العاصمة.

كما عمل الثنائي على تكييف مضامين المسرحيات العالمية مع الثقافة اللبنانية، بما يجعلها قريبة من المتلقي المحلي، بالإضافة إلى البحث في أشكال سينوغرافية منسجمة مع الثقافة اللبنانية والعربية، تعكس روح المكان والبيئة. وابتكرا أساليب تدريب للممثل مستوحاة من ثقافته وغنية بها، تتلاءم مع أشكال العرض التي كانوا يجرّبونها (ثنائي الواجهة، رباعي الواجهات، الدائري).

ويشهد التاريخ المسرحي لهما على ترسيخ استمرارية الفن، برغم الصعوبات المالية واللوجستية، وقد واصلا منح الأجيال الشابة من الممثلين والممثلات الوسائل اللازمة لتطوير مهاراتهم، بينما عملا على تعزيز التفاعل بين المسرح والسينما والتلفزيون، ما جعلهما معروفين لدى الجمهور العريض وأسهم في ازدهار هذه القطاعات الثلاثة في لبنان.

برنامج الحفل
ينطلق البرنامج بكلمة لرئيس الجامعة، تليها كلمة العائلة، قبل أن تُفتح الستارة على عرضٍ موسيقي بعنوان "أخوت شاناي" من تأليف وإخراج زاد ملتقى، تؤديه فرقة "Odyssée ensemble & cie". العرض، الذي قُدّم للمرة الأولى عام 2024، يستعيد شخصية جحا - أو "المجنون من شاناي" - بوصفه جزءاً من الذاكرة الشعبية الممتدة من البلقان حتى منغوليا. عبر حكاياته العبثية المازجة بين الطرافة والحكمة، يذكّرنا العرض بأن الفنون قادرة على مقاربة أكثر القضايا جدّية بأسلوبٍ طفولي، ساخر، مفرح، وعميق في آن.

 

إعلان مسرحية “أخوت شناي“. (المكتبة الشرقية)
إعلان مسرحية “أخوت شناي“. (المكتبة الشرقية)

 

على الخشبة، ثلاث شخصيات تجوب المكان بأدواتها الموسيقية وسط ديكورات كرتونية ملوّنة، فيما تتأرجح الموسيقى بين نَفَس السيرك وأصداء شرقية ساخرة. باستخدام مكبّرات الصوت والمؤثرات الإلكترونية، يُضاف إلى المشهد بُعد سحري يجعل العرض تجربة حسّية وفكرية تستعيد النظرة الأولى إلى العالم... نظرة الطفولة المنسية.

وبفضل دعم المعهد الفرنسي في لبنان ومتبرّعين، ستُقام في اليوم التالي حفلة مخصّصة للتلامذة (9–12 عاماً)، في مبادرة تؤكد عالدور التربوي للمسرح كمساحة لاكتشاف الذات والجماعة منذ الصغر.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/10/2025 8:28:00 AM
أثار الفيديو المتداول تفاعلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي
المشرق-العربي 10/11/2025 1:12:00 PM
على الرغم من السرّية الشديدة التي تُحيط بمخبأ الأسد الخفي، تمكّن فريق الصحيفة الألمانية من دخول المبنى نفسه والتقوا هناك بوكيلة عقارات محلية عرّفت عن نفسها باسم مستعار هو ناتاشا.
اقتصاد وأعمال 10/8/2025 7:17:00 PM
ما هو الذهب الصافي الصلب الصيني، ولماذا هو منافس قوي للذهب التقليدي، وكيف سيغير مستقبل صناعة المجوهرات عالمياً، وأهم مزاياه، وبماذا ينصح الخبراء المشترين؟