"العالم بعد غزة": تشريحٌ لسلالة العنف

ما قرأت كتاب بانكاج ميشرا "العالم بعد غزة" (The World After Gaza) بوصفه عملاً أكاديمياً مجرداً، بل بوصفه نصباً فكرياً، صُنع في خضم بوتقة الانهيار الأخلاقي العالمي، وردة فعل حادة على عنف كارثي تصاعد بعد غزوة "حماس" في 7 أكتوبر 2023، وما تلاها من دمار دار في دائرة واسعة: غزة، لبنان، سوريا، اليمن، إيران، وقطر. شعرت مع ميشرا بذلك الإحساس بالإلحاح على التفاعل الإنساني. يكتب: "أحسست بإكراه على الكتابة للتخفيف من حيرتي المثبطة للعزيمة أمام هذا الانهيار الأخلاقي الواسع".
تتجاوز أزمة غزة، في كتاب ميشرا، حدود الصراع الجيو-سياسي. يشخّص الكاتب تواطؤ الغرب مع إسرائيل على أنه "عودة مقلقة إلى أسوأ دوافع التاريخ، ونموذج لإمبريالية جشعة يذكّر بحوادث القرن التاسع عشر". بالنسبة إليه، الأسئلة هنا أخلاقية: "كيف يمكن البشر أن يعاملوا بشرًا آخرين بقسوة القتل؟ وأن نسأل أيضًا الناس اليوم، أو القراء اليوم: كيف يمكننا أن نسمح بحدوث ذلك؟".
يبني ميشرا سلالةً للعنف من صدمات كبرى في القرن العشرين، مرتبطة جوهريًا بالإمبريالية. ويجادل بقوة أن الهولوكوست والنكبة وتقسيم الهند "نواتج متوازية لفشل مشترك: مكائد إمبريالية وانتهازية قومية وتقسيم أخرق، وحرب وتطهير عرقي". بحسبه، النازية نفسها امتداد للاستعمار، وإيديولوجيا مستوردة من أطراف النشوة الإمبراطورية في أوروبا القارية. وبموجب هذا الرأي، "الهولوكوست تدفق طبيعي لعمليات الإبادة الجماعية الأخرى التي ارتكبها البيض حول العالم". هذه الإدانة الهيكلية للتاريخ الغربي تعيد تأطير صراع غزة بوصفه نقطة فشلت فيها الليبرالية الغربية في التغلب على حمضها النووي الاستعماري.
التذكّر والقوة الظالمة
الارتكاز الفكري لحجة ميشرا هو تحليله التطور السياسي لذاكرة الهولوكوست. يبدأ بالإشارة إلى "العجز في التعاطف في الغرب" تاريخيًا تجاه اللاجئين اليهود خلال الحرب وبعدها مباشرة، ملاحظًا النمط السائد "للوقوف موقف المتفرج"، الذي أظهرته مختلف الدول الغربية. يطرح سؤالاً قاسياً: "متى يصبح التذكر المنظم خادمًا للقوة الظالمة، ومُشرعًا للعنف والطغيان؟".
يقول ميشرا في كتابه إن التوظيف الانتقائي للذاكرة أدى إلى تصور واسع النطاق بتحريف ذاكرة الهولوكوست لتبرير القتل الجماعي. فبربط هذه الذاكرة بالتطهير العرقي للنكبة، يتحدّى ميشرا الأساس الأخلاقي ذاته للإجماع الدولي لما بعد 1945. يكتب: "إن كان التبرير الأخلاقي للنظام العالمي الليبرالي، المولود من رماد الحرب العالمية الثانية، قد استُخدم فورًا لحرمان الفلسطينيين من العدالة، فإن أسس هذا النظام بُنيت على نِفاق لم ينهر بالكامل إلا أخيراً".
يروي ميشرا تفاصيل مثيرة عن تحوّله السياسي لصالح القضية الفلسطينية بعد زيارته إسرائيل-فلسطين في عام 2008. فبرؤية الفلسطينيين، "رأيت أشخاصًا يشبهونني"، وفق ما يكتب، واضعاً نقده ضمن رابط أبويّ، مصرّحًا بأن الفلسطينيين كانوا يعانون "كابوسًا وضعته أنا وأجدادي وراء ظهورنا"، عندما نالت الهند استقلالها. هذا الدمج بين الشخصي والسياسي في التاريخ يمنح الكاتب سلطة أخلاقية محدّدة ضمن خطاب إنهاء الاستعمار. وبالنسبة إلى الملايين حول العالم، أسفر الصراع في غزة عن "ضيق نفسي عميق من أن يصبحوا شهودًا غير طوعيين على شر سياسي".
تعريفات جديدة
هذا الكتاب نتاج إلحاح أخلاقيّ وليس تجردًا أكاديميًا. إنجازه الفعلي هو إعادة تعريفه مصطلحات النقاش. فمن خلال إجباري - أنا القارئ - على مواجهة تشابك الهولوكوست والنكبة والتاريخ الاستعماري العالمي، يُلزمني المؤلف الهندي بالتخلّي عن روايات الاستثنائية، والنظر إلى الأزمة الحالية بوصفها وظيفة للتفوق الأبيض الدائم. إنه يعبر بقوة عن الكيفية التي حطمت بها غزوة 7 أكتوبر "هالة الحصانة" الإسرائيلية، ما فرض حسابًا عالميًا مع لحظة تم فيها "انتهاك القوة البيضاء علنًا"، وبالتالي تحدّي الافتراضات الأساسية للأمن والهيمنة التي تحملها الأغلبية الغربية. وبينما يشير النقاد بشكل صحيح إلى إغفالات فكرية كبيرة – المعالجة غير الكافية لمسألة "حماس"، والتأطير الاختزالي للصهيونية، وتهميش تاريخ اليهود المزراحيين – ربما تكون هذه العيوب هي النتيجة الحتمية لعمل يحاول توحيد قرون من الظلم العالمي تحت أطروحة واحدة وملحة.
"العالم بعد غزة" عنوان ماضوي بلمحة مستقبلية. مع ذلك، يظل العالم بشكل مأسوي "في خضم غزة". برفض الاستسلام لليأس، وبالمطالبة بإعادة تقييم جذري للتاريخ والمسؤولية العالمية، يوفر ميشرا نصًا تأسيسيًا لفكر سياسي مختلف بعد غزة، والكتاب هذا خريطة صعبة وضرورية للتنقل في التضاريس الصعبة التي تبقى عندما بعدما يتهدم الأفق الأخلاقي للعالم.