حاكم الشارقة يفتتح "مركز الدراسات العربية" في جامعة كويمبرا البرتغالية

في خطوة ثقافية لافتة تعزز حضور اللغة العربية على الساحة الأكاديمية الأوروبية، افتتح حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، يوم الجمعة، مركز الدراسات العربية في جامعة كويمبرا البرتغالية، بحضور الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب. ويُعدّ هذا المركز الأول من نوعه في البرتغال المخصص لتعليم اللغة والثقافة العربية، ويقع في إحدى أقدم الجامعات في أوروبا، التي يعود تأسيسها إلى عام 1290.
خلال الافتتاح، أزاح القاسمي الستار عن اللوح التذكاري إيذاناً بتدشين المركز، ثم جال في أرجائه مطلعاً على برامجه الأكاديمية وخدماته المتخصصة في تعليم اللغة العربية ونشر ثقافتها. كما التقى الطلاب المنتسبين، مثمناً شغفهم بتعلم العربية وما تحمله من عمق حضاري وفني يسهم في بناء جسور الحوار بين الثقافات.
ويُجسّد افتتاح المركز رؤية حاكم الشارقة لتعزيز الحضور العربي في المؤسسات الأكاديمية الدولية، وتوجه الإمارات العربية المتحدة إلى ترسيخ الحوار الحضاري والمعرفي بين الشرق والغرب. وسيقدّم المركز برامج متقدمة لتعليم اللغة العربية وخطها وقواعدها، إلى جانب تنظيم ندوات وملتقيات تجمع المبدعين العرب مع نظرائهم الأوروبيين، ما يجعله منصة فاعلة للتبادل الثقافي.
"مخطوطة باربوزا" النادرة
ضمن الاحتفالية، انتقل القاسمي إلى مكتبة جوانينا التاريخية في الجامعة، حيث أعلن إطلاق مكتبة جوانينا الرقمية، ووقّع كتابه الجديد "رحلة بالغة الأهمية" الصادر بثلاث لغات: العربية والإنكليزية والبرتغالية. كما أهدى المكتبة النسخة الأصلية من "مخطوطة باربوزا" المؤرخة عام 1565، والتي تُعدّ من أهم المراجع التي توثق بدايات القرن السادس عشر، رغم تعلّقه بها، إذ كان يضعها في غرفته ويكثر الاطلاع عليها لدرجة تعلمه أجزاء من اللغة البرتغالية من كثرة مطالعة المخطوطة.
وفي كلمته، استعاد القاسمي علاقته الممتدة مع جامعة كويمبرا، منذ حصوله على الدكتوراه الفخرية منها قبل سبع سنوات، وتحدّث عن رحلته الطويلة في تتبّع المخطوطة المفقودة لنحو قرن، قبل أن يعثر عليها ويقتنيها عام 2012، حين كان منكبّاً على توثيق تاريخ الإمارات في مرحلة كان البرتغاليون جزءاً منها. وشرح أنّ "المخطوطة تتحدّث عن نص كتبه الضابط البرتغالي دوارتي باربوزا الذي رافق قادة الاحتلال البرتغالي في القرن 16 من خليج سان سباستيان إلى سواحل الصين مروراً بمنطقتنا في الخليج العربي"، مضيفاً: "تتبّعتُ أثر هذه المخطوطة من أرشيف إلى آخر، ومن مرجع إلى آخر، حتى وصلت إلى نسخة كاملة فقرأتها بعناية، ووجدت فيها صورة مختلفة تماماً لما نُقل إلينا من روايات عن تلك المرحلة التاريخية".
وأشاد القاسمي بـ"نزاهة وصدق" باربوزا في وصفه ونقله لما شاهده، قائلاً إنّ أول ما لاحظه في المخطوطة "أنّ الكاتب تحلى فيها بالنزاهة في الوصف، وصدق في النقل، وهو ما جعلها شهادة نادرة على تفاصيل دقيقة عن واقع منطقتنا في ذلك الزمان، وعن طبيعة العلاقة بين شعوبها والوافدين إليها من بعيد". وأشار إلى أنّ "باربوزا كان، من حيث لا يدري، يعيد التوازن إلى رواية اختلت معالمها طويلاً في لحظة كان فيها التوثيق الحقيقي فعلاً نادراً وشجاعاً، فقد أضاء بالحقيقة على التاريخ البرتغالي وأنصف حاضره كما أنصف الماضي العربي حيث وثق حضور أهله وفضائلهم وإنسانيتهم".
وتابع: "لقد أكّد باربوزا أن شعوب منطقتنا رغم ما واجهوه من تحديات واحتلال فقد حافظوا على إنسانيتهم، واحتضنوا الآخر، وأعلوا من شأن الكرامة والتعايش بين الشعوب والديانات. كما وصف مدى التقدّم الذي أحرزه أبناء المنطقة في الكثير من المجالات، من علوم وثقافة وعمران ونظم تجارة وحضارة مجتمعات، وبين أيضاً وبكل وضوح أن قوى الاحتلال القادمة من وراء البحر كانت تمارس التدمير والتخريب والاستعلاء",
وأوضح القاسمي أنّ قراره بنقل النسخة الأصلية إلى المكتبة البرتغالية جاء من قناعة بضرورة أن تعود هذه الوثيقة إلى موطنها التاريخي، لتكون في متناول الباحثين والمختصين حول العالم.
"رحلة بالغة الأهمية": جسر للحوار والمعرفة
عن كتابه الجديد، قال حاكم الشارقة: "حين قررتُ إصدار هذا الكتاب وترجمته إلى العربية والإنكليزية والبرتغالية لم أكن أبحث عن إثبات تاريخي فقط، بل عن إنصاف حقيقي لأهلنا، وعن استعادة روايتهم كما رآها شاهد من أهل الحدث". وأضاف: "أؤمن أنّ المعرفة حيث تنبع من الحقيقة تصبح جسراً متيناً للحوار، وأساساً صلباً لبناء علاقات بين الشعوب، لهذا كنت حريصاً في كل سطر من سطور الكتاب على أن أستبقي لغة باربوزا كما كتبها بأمانته وتواضعه، وأن أنقل صوته من دون تلوين أو تحوير، لأنني وجدت فيه روح الباحث الصادق الذي شهد بما رأى، ووثق ما عاش، ووقف على مسافة منطقية من طموحات القوة التي كان يرافقها".
الكتاب يُعد تحقيقاً علمياً للمخطوطة، ويضم أوصافاً دقيقة لسواحل الخليج والجزيرة العربية والمحيط الهندي والهند، ما يجعله مرجعاً محورياً لدراسة الملاحة والتجارة والثقافة بين العرب والبرتغاليين في تلك الحقبة.
وقال القاسمي عن دافع الكتابة: "ما أردته أن نمنح الأجيال المقبلة وثيقة معرفية متينة تستند إليه وهي تخوض حواراتها الحضارية في عالم تتغير فيه المفاهيم بين ليلة وضحاها، وتتنازع فيه الروايات بأدوات القوة وليس بأدوات العدل، واليوم ها أنا ذا أقف أمامكم أجلب معي مخطوطة باربوزا الأصلية وكتابي "رحلة بالغة الأهمية" وأهديكم إياهما لنضع أصل الرواية بين يدي أهلها".
تعاون ثقافي راسخ بين الشارقة وكويمبرا
من جانبه، أكد رئيس جامعة كويمبرا أميلكار فالكاوم أنّ افتتاح المركز يمثّل علامة جديدة في مسار التعاون بين الجامعة والشارقة، مشيراً إلى أنّ مشروع الرقمنة المشتركة لمكتبة جوانينا - الذي أثمر إطلاق "المجموعة الرقمية للشرق الأوسط" باسم "مجموعة سلطان بن محمد القاسمي" - يضع أحد أهم أرشيفات العالم في متناول الباحثين رقمياً، ويعزز التقاء التقاليد الفكرية العربية والأوروبية.
وشاهد الحضور فيلماً تعريفياً حول مشروع الرقمنة الذي يشمل أكثر من 30 ألف كتاب ومخطوطة نادرة، بعضها لم يكن معروفاً من قبل، مما أضاف ثراءً جديداً إلى أرشيف المكتبة العريقة المدرجة على لائحة التراث العالمي لليونسكو.
الثقافة... جسر يتجاوز الجغرافيا
واختتم القاسمي كلمته، مؤكّداً للعالم "أنّ الثقافة قد لا تغير الجغرافيا لكنها تغير طريقة النظر إليها، وهي لا تمحو الحدود لكنها قادرة على تحويلها إلى جسور حية ومعابر ومساحات التقاء، والثقافة أيضاً لا تغير التاريخ لكنها تغير طريقة قراءتنا له".
من جانبه، اعتبر فالكاوم أنّ تطوير جامعة كويمبرا للمشروع المشترك لرقمنة مجموعة من كتب المكتبة القيّمة بالتعاون مع هيئة الشارقة للكتاب، "يُعدّ مؤشراً واضحاً على القيمة المضافة التي تحققها الشراكات الدولية، ولقد وصل مشروع الرقمنة الاستثنائي إلى مرحلة مهمة مع الإطلاق الرسمي لقسمه الأول"، مضيفاً أنّه، "ومن خلال نقل إحدى أجمل مكتبات العالم إلى الفضاء الرقمي، نحن نسهم في تعزيز التقاء التقاليد الفكرية والفنية المتنوعة، وفي الوقت نفسه، نضع البحث العلمي المتطور في خدمة إرث مشترك".
أمّا الدكتور خوسيه بيدرو فوصف كتاب حاكم الشارقة "رحلة بالغة الأهمية" بأنّه "ذو قيمة علمية كبيرة ويحتوي على مجموعة مميزة ونادرة من المخطوطات التي جمعها سموه حباً للعلم والثقافة وحفظ التاريخ".
وتلقّى القاسمي هدية تذكارية قدّمها فالكاوم تقديراً لدعمه ومبادراته الثقافية مع جامعة كويمبرا التي تعزز من العلاقة المتميزة بين الشارقة والجامعة في المجالات الثقافية والتاريخية.
رافق القاسمي خلال الافتتاح عدد من كبار الشخصيات الإماراتية والبرتغالية، من بينهم أحمد عبدالرحمن المحمود سفير الإمارات لدى البرتغال، وأحمد بن ركاض العامري الرئيس التنفيذي لهيئة الشارقة للكتاب، والدكتور عبدالعزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث، والدكتور سلطان العميمي رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ومحمد حسن خلف مدير عام هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون، وعدد من كبار المسؤولين الإماراتيين والبرتغاليين.