فيلم "معركة تلو أخرى" وتأمّلات فرنسيس فورد كوبولا

يبدو أنّ فيلم "معركة تلو أخرى" (One Battle After Another) يعيش أفضل أيامه، إذ تحوّل خلال أسابيع قليلة من إصدار جديد إلى حدثٍ سينمائي يطبع موسم 2025 ببصمة خاصة.
الفيلم، وهو أحدث أعمال المخرج الأميركي بول توماس أندرسون، حقق افتتاحاً قياسياً في شباك التذاكر الأميركي بلغ 22.4 مليون دولار، وهو الأعلى في مسيرته، قبل أن يواصل انطلاقته عالمياً ليصل إلى 48.5 مليون دولار في أيامه الأولى، وسط إقبال جماهيري لافت على عروض "IMAX" وتوقعات بترشيحات قوية في موسم الجوائز.
هذا النجاح التجاري والنقدي لفيلم سياسي الطابع، يمتدّ على ثلاث ساعات ويحمل رؤية فنية جريئة، أعاد النقاش حول موقع "سينما المؤلف" في المشهد الهوليوودي الراهن، بين الأفلام الضخمة والأعمال المستقلة محدودة الميزانية.
في خضم الزخم، جاء تعليق فرنسيس فورد كوبولا، مخرج "العرّاب" وأحد أعمدة السينما الأميركية، ليضفي ثقلاً على إرث بول توماس أندرسون وبُعداً إضافياً على النقاش. فبعد حضوره عرضاً للفيلم في روما، نشر كوبولا ملاحظة مطوّلة وصف فيها تجربته بالمركّبة، مشيراً إلى أنّ ضعف سمعه والترجمة الإيطالية جعلا المتابعة "تحدّياً"، لكنه شدّد على رغبته في مشاهدته مرة ثانيةً، معبّراً عن إعجابه العميق بأعمال أندرسون السابقة.
هذا الموقف الصريح من مخرج أسطوري، قضى العام الماضي يدافع عن رؤيته الفنية الضخمة في "ميغالوبوليس"، عكس تقديراً لفيلمٍ لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يستحق التأمل والتفكير العميق، وهو ما جعل تعليقه يلقى صدى واسعاً في الأوساط السينمائية.
لماذا تعليق كوبولا مهمّ؟
ردّ فعل كوبولا حقق أمرين في آنٍ واحد. أولاً، قدّم نموذجاً لنوع من "حب السينما السخي": اعترف علناً بحيرته، أشار إلى حدوده الشخصية (ضعف السمع، حاجز اللغة)، وأصرّ على إعادة المشاهدة قبل إصدار أي حكم. في زمن "الآراء الفورية" وضجيج اللحظة، تُعدّ هذه الدرجة من التواضع نادرة، وقد أعادت تأطير الضجة المحيطة بفيلم أندرسون باعتبارها شيئاً قد يتّضح مع الزمن لا مع الثرثرة.
"واشنطن بوست" رصدت ردود الفعل الثقافية المبكرة، وأشارت إلى عبارة كوبولا "أحتاج أن أشاهده مرة أخرى" كنوع من "صمّام الأمان" للمشاهدين الذين خرجوا من القاعة مشدوهين ومتحيّرين في آن.
ثانياً، أدرك مخرج "القيامة الآن" ضمناً قدرة أندرسون على دمج الراهن السياسي مع الحِرَفيّة العالية. فالفيلم يمزج بين كوميديا فوضوية وبارانويا سياسية وخط أبوي-بنوي يؤديه ليوناردو دي كابريو مع أداءات لافتة من حوله.
نجاح في شباك التذاكر
الأرقام جزء تفصيلي من مسألة نجاح "معركة تلو أخرى". التغطيات الاقتصادية قدّمت افتتاح "وورنر براذرز" ضمن "سلسلة نجاحات" للموزع، مع اهتمام واضح بعروض "IMAX"، بينما ركّزت الصحف المتخصصة على أنّ زخم موسم الجوائز قد يوسّع جمهور هذا العمل السياسي الحادّ. بمعنى آخر: قدّم أندرسون فيلماً ضخماً ومجازفاً يفرض نفسه كـ"حدث سينمائي".
في المقلب الآخر، يُعدّ تركيز كوبولا على إعادة المشاهدة عمليّ - فقد عانى فعلياً من السمع والترجمة - لكنه أيضاً جماليّ. خلطة أندرسون - أكشن، كوميديا، حزن، بارانويا - مصمّمة لتكون طاغية في المشاهدة الأولى؛ عاصفة الأسماء والقفزات الزمنية مقصودة بقدر ما هي مربكة. في المشاهدة الثانية، تتكشّف الأنماط والأفكار وتحوّلات الشخصيات. هي خيوط ركز عليها النقاد في ندوة لـ"واشنطن بوست"، وهي ما يمنح الفيلم راهنيته العميقة لا طابعه السياسي الظرفي.
بين كوبولا، سكورسيزي وأندرسون
إذا كان إعجاب مارتن سكورسيزي العلني قد ربط خطاً بين جيلين مطلع الأسبوع، فإنّ منشور كوبولا على "إنستغرام" يمدّ خطاً آخر: مخرج أسطوري يقول علناً إنّه يحتاج وقتاً إضافياً مع عمل مخرج أصغر سنّاً. الأمر أكبر من الزمالة الإخراجية.
يُعدّ سكورسيزي أحد أبرز من صاغوا الإرث السينمائي لليوناردو دي كابريو، وقد أشاد أخيراً بالفيلم، مسلطاً الضوء على البُعد السياسي المُلحّ في الفيلم، وعلى دقته الحرفية، وعلى الأداء "المشحون بالطاقة" الذي قدّمه دي كابريو، واصفاً النتيجة بأنها إنجاز قوي، والفيلم بأنّه "آسر وصُنع على نحو استثنائي".
بالنسبة لأندرسون، الذي غالباً ما تتكشّف أفلامه عبر المشاهدات المتعددة، فهذا بالضبط "تصريح ثقافي" يضمن بقاء الفيلم في دائرة النقاش مع اقتراب موسم الجوائز. أما للجمهور، فهي دعوة مفتوحة: كوبولا قال حرفياً "إنه فيلم أرغب في مشاهدته مرة ثانية"، لذا خذ وقتك، عد مجدداً، امنح الفيلم فرصته، ودعه يتكشّف رويداً رويداً أمامك.