"معركة تلو أخرى": لا صوت يعلو فوق صوت PTA
ليوناردو ديكابريو في دور بوب.
Smaller Bigger

عام 1997، في ذروة هوسي المراهق بالأفلام، دخلتُ إحدى الصالات البيروتية. لا أذكر كيف وصلتُ إلى هناك، لكن من فرط ما تركه الفيلم فيّ من أثر، لا أزال أذكر اسم الصالة، بل وحتى أين جلستُ. 

”الثمانية الصعبة"! هذا ما شاهدته يومذاك، لمخرج كنت أقرأ اسمه للمرة الأولى: بول توماس أندرسون. PTA. كانت الصالة فارغة تماماً، إلا من شخصي الكريم وحضوري الوحيد، وربما لهذا السبب جذبني الفيلم، فتلذّذتُ بكلّ لقطة منه. فيليب بايكر هول، بهدوئه المربك ونظراته المشحونة بالجدية، كان أساسياً بانخراطي في الأحداث. منذ ذلك الوقت، تابعتُ كلّ أفلام أندرسون، وعندما وجدتُ نفسي قبل أيام أمام فيلمه الأحدث، "معركة تلو أخرى"، شعرتُ بالفخر لمواكبتي مسيرة مخرج كنت يوماً "جمهوره" الوحيد في صالة مظلمة؛ مخرج راهنتُ عليه ليس فقط معنوياً، إنما من مالي الخاص. ولم يخب ظنّي في أي لحظة. الإحساس ذاته راودني مع مخرجين آخرين مثل جيمس غراي وأليخاندرو غونزاليث إينياريتو، لحظة اكتشافي أعمالهما الأولى ماثلة في ذهني، حين كانا لا يزالان مجهولين.

كان بول توماس أندرسون يومذاك في السادسة والعشرين، وهو تماماً العمر الذي قدّم فيه أورسون ولز "المواطن كاين". وبينما صعد أندرسون بثبات، فيلماً بعد آخر، مقدّماً روائع مثل "ستُهرق الدماء"، متحوّلاً إلى ”روبرت أولتمان الجديد“، واجه ولز سلسلة عراقيل أوصلته، في نهاية رحلته، إلى حافة الإفلاس الفنّي. صحيح أن أندرسون بلور رؤيته كثيراً على مر السنوات، لكن شيئاً واحداً بقي ثابتاً لا يهتز منذ فيلمه الأول: قدرته على تقديم ما هو مختلف، شيء ذو بصمة وهوية، بل هوية ذات ثقل فنّي تنبش في الشخصي. وبفضل طاقته هذه، أصبح أحد أبرز المجدّدين في السينما الأميركية المعاصرة. 

 

شون بن مجسّداً الكولونيل لوكجو وخلفه برفيديا (تييانا تايلور).
شون بن مجسّداً الكولونيل لوكجو وخلفه برفيديا (تييانا تايلور).

 

فيلمه الأحدث، "معركة تلو أخرى"، المعروض حالياً في أنحاء العالم، دليل آخر على تلك الديناميكية التي عند السينما الأميركية والقادرة على مفاجأتنا. تطل برأسها من تحت الركام، على الأقل مرة كلّ عام، لتعيد الثقة بهذه السينما، حتى في أكثر لحظاتها اضمحلالاً. يكفي فيلم واحد من طينة "معركة تلو أخرى" لننسى طوفان "البلوكبستر" المكرّرة، والخطاب الاستهلاكي الجاهز، والإعادات المملّة التي تغرق بها هوليوود. وإذا كان "الوحشي" لبرادي كوربيت هو الفيلم الأميركي الأروع، العام الماضي، فإن "معركة تلو أخرى" هو وارثه بجدارة. نحن حيال فيلم إخراج ووتيرة وتعقّب، ومهما تألّقت العناصر، فلا صوت يعلو فوق صوت PTA. 

الفيلم منفصل عن الواقع ومتّصل به بخيط رفيع، يحركه أندرسون على مزاجه ببراعة لا مثيل لها. تدور الأحداث مكانياً في أميركا ما، حيث الاستقطاب السياسي على أشدّه، لكن زمن الأحداث لا يعلنه المخرج بصراحة ولا تكشفه الأحداث، لكن كلّ التفاصيل هنا تساهم في اقناعنا بأننا في الراهن، من أزمة اللاجئين إلى خطاب التفوّق العرقي فالاصطفاف السياسي العنيف بين يمين متطرف ويسار راديكالي، والصراع هذا سيكون شغل الفيلم الشاغل كما ستشغل شخصياته أيضاً.

في هذه الأجواء المتوتّرة، تظهر فرقة من الثوار تطلق على نفسها اسم "مجموعة 75 الفرنسية"، يزرع أفرادها القنابل ويقتحمون المصارف، وفي مرصادهم الأمبريالية العالمية والنظام الرأسمالي. يبدأ الفيلم بواحدة من تلك العمليات المنظّمة، حيث تهاجم الفرقة مركزاً للاجئين على الحدود المكسيكية لتحرير المحتجزين فيه. في ذلك المشهد الافتتاحي، سنتعرف الى الشخصيات الثلاث المحورية التي يدور عليها الفيلم: بوب (ليوناردو ديكابريو)، حبيبته برفيديا (تييانا تايلور) والكولونيل لوكجو (شون بن). عشرون دقيقة كافية لتأسيس المعضلة، ووضع المدنيين في مواجهة العسكر، فحفر هوة ضخمة بين الامتثال والمثالية.  

 

بول توماس أندرسون مع ديكابريو أثناء التصوير.
بول توماس أندرسون مع ديكابريو أثناء التصوير.

 

نقفز ستّة عشر عاماً إلى الأمام: بوب أصبح ثائراً محبطاً، يعيش مع ابنته ويلا (تشايس إنفينيتي) ذات الستّة عشر ربيعاً، في قرية نائية على هامش العالم، غارقاً في خيباته ومنكفئاً على ماضيه، فيما يخرج الكولونيل من سباته الطويل ويشرع في البحث عن الطفلة ويلا التي غدت شابة. هنا يبدأ المُشاهد في تساؤل "أي سرّ يربطه بها؟"، لتبدأ معه دورة جديدة من الصراع والمناكفة؛ صراع تتكشّف معه حرب مفتوحة لا هوادة فيها، ستخطف أنفاس المتفرج. الفيلم كله حلقة مطاردة، لعبة قط وفأر، لاهثة ومتقطّعة، يحشر داخلها أندرسون كلّ ما يود قوله. 

رغم كثافة التفاصيل وتشعّب المسارات التي توحي أحياناً بخليط من القضايا، فالحكاية في جوهرها بالغة البساطة، يمكن اختزالها في كلمتين: حقّ الاعتراض. الاعتراض على ما آل إليه هذا العالم من توحّش. وبهذه الذريعة، يقفز بنا الفيلم كثيراً، من مكان إلى آخر، بلا توقّف، طوال 160 دقيقة. أمام كاميرا أندرسون، تصبح الثورة المسلّحة فكرة جذّابة، لأنه يحدق في عينيها. يُظهرها في لحظاتها الأولى، قبل أن تتمادى أو تُخدَش بتناقضاتها، كأنه يفضح رومانسيتها قبل أن تتحوّل إلى عبث. أما الآخرون، أولئك الذين يشكّلون خطراً على العالم، فيُبقيهم عند مسافة محسوبة، غارقين في الفساد والجريمة، مؤتمنين على الفوضى والدم، بلا محاولة لتبريرهم أو إضفاء عمق زائف عليهم. ويقدّم الفيلم أيضاً فكرة لامحة بذكاء ساخر: كلّ ثائر اليوم، هو رجعي الغد. مهما بدا تمردك جذرياً في هذه اللحظة، لا بد أن تبدو متخلّفاً في نظر الأجيال القادمة، وهذه حال ”بطلنا“ بوب.

مع ذلك، يصعب اختزال الفيلم في فكرة واحدة وحيدة، خشية الوقوع في تبسيط مخلّ لتجربة بصرية وسردية تتقاطع فيها التناقضات وتتكشّف طبقاتها تباعاً، كما لو أن كلّ طبقة تحيل على أخرى أعمق وأعقد.

 

بينيسيو دل تورو وليوناردو ديكابريو.
بينيسيو دل تورو وليوناردو ديكابريو.

 

أول ما يلفت في الفيلم هو إيقاعه الجهنّمي، ذلك الإيقاع القاسي الذي يرويه أندرسون بإحكام بالغ، متنقّلاً بين مناخات متباينة عبر لعبة تركيبية مدهشة، وهذا كله مصقول بالفورما السينمائي العريض والمشهدية الواسعة التي أصبحت علامته. وتلعب موسيقى جوني غرينوود، دوراً أساسياً في ربط هذه الفصول وصناعة توتّرها الداخلي. المَشاهد ينصهر بعضها ببعض بانسيابية مذهلة وكيمياء فريدة، وحتى حين تتبدّل الأمكنة، نجد أنفسنا داخل وحدة سردية متماسكة، كما لو كنّا في قوقعة تنزلق بنا بثبات إلى الأمام.

هذا الجانب من الفيلم، إن دلّ على شيء، فعلى موهبة أندرسون في إخضاع الزمن لإرادته، مطوّعاً إياه لخدمة الإحساس والمتعة، لتصلنا التجربة بأكملها كصفعة صريحة على الوجه. جمالياً، يطوّر الفيلم لغته البصرية في مدار بعيد عن الزخرفة؛ الصورة هنا محض وظيفية، لكنها قادرة على التقاط كلّ شيء. لا جمالية من أجل الجمالية. في هذا الفيلم، اللقطة المناسبة والمطلوبة هي نفسها اللقطة الجميلة.

الفيلم يشبه عمارةً مفتوحة النوافذ، تمرّ من خلالها الشخصيات وتتقاطع الحكايات. هنا فيلم مطاردات، وهناك ميلودراما عائلية أو فيلم حربي، وفي الوسط فيلم حركة… وهذا كله سيكلل بفيلم وسترن حيث بعض الكادرات في دير للراهبات يجلعنا نعتقد أننا في عمق السينما الإيطالية. كاميرا أندرسون تعبر بين كلّ هذه الفضاءات بخفّة وانسجام، حاضنةً كلّ شيء بذراعيها، من دون أن تترك أثراً للترهّل السردي. كلّ ما يمرّ أمام العدسة يحضر في وقته المناسب، وبجرعته المضبوطة، من دون إسراف أو نقصان. عين أندرسون قادرة على نسج هذه الهارمونيا الدقيقة، التي تبدو في ظاهرها عفوية، لكنها في جوهرها نتاج حرفة مذهلة.

 

مطاردات غير تقليدية.
مطاردات غير تقليدية.

 

ماذا يقول الفيلم عن أميركا؟ نعم، أميركا! 

أي فنّان كبير، لا بد له أن ينطلق من مكان، من بيئة، من حيز جغرافي وفكري. لكن، ومرةً أخرى، وبكلّ التباس هذه الخطوة، لا يقول أندرسون شيئاً مباشراً عن أميركا، وفي الوقت نفسه، يقول عنها كلّ شيء. وهنا تكمن ”خطورة“ النقد وتأويلاته واسقاطاته: أن يُختَزل الفيلم في "فكرة" تبدو، مهما بلغت من نبالة، فقيرة وهزيلة حين توضع على الورق.

أندرسون لا يناقش أفكاراً بقدر ما يفتّتها. يدور بها ويعيد قولبتها إلى وحدات صغيرة غير قابلة للتأطير.

هل الفيلم عن تجاوزات الدوغمائية؟ عن تسلّم وتسليم المصائب بين جيلين يعيشان علاقة معقّدة؟ عن الهوة بين القول والفعل؟ عن السلطة المغروسة في النفس البشرية منذ البدء؟ هذا كله موجود... ولكن ثراء الفيلم يمنعه من الانجرار نحو أطروحة واحدة. فأي محاولة لتوجيهه من الناقد، تُسخِّفه. مع ذلك، يبقى السؤال ملِّحاً: ماذا يود القول عن أميركا؟ هذه البلاد الحاضرة بكل أطيافها: ماضيها الثقيل، حاضرها المرتبك ومستقبلها المعلّق. أميركا بكلّ انقسامها وتناقضاتها، التي، ويا للمفارقة، تصبّ كلها في مصبّ واحد.

لا يدّعي أندرسون أن الضدين متشابهان، لكنه أيضاً لا يراهن على اختلاف جوهري بينهما. لا إمكان للقاء. طريقان لا يلتقيان... أبداً. مع ذلك، لا يتردّد في وضع بطله أمام التلفاز وهو يشاهد فيلم "معركة الجزائر" مدخّناً سيجارة حشيشة، أو يسخر من "ثقافة الصحوة". ولكن، في عالم أندرسون، الذي يقترب كثيراً هنا من البورليسك والكاريكاتور، يصعب الإمساك بالأفكار الثقيلة. هي هناك، نعم، لكنها شفّافة، زئبقية، تتفلّت. مركز الاهتمام يتبدّل باستمرار، والضوء لا يستقر على شيء واحد. كلّ شيء في هذا الفيلم حَمّال أوجه.

 

ملصق الفيلم الذي بلغت موازنته 140 مليون دولار.
ملصق الفيلم الذي بلغت موازنته 140 مليون دولار.

 

يناقض أندرسون الفيلم الأميركي الشعبي ذا الموازنة الضخمة، ما يُعرف بـ"البلوكباستر"، لا بالرفض المباشر، إنما بالتحايل عليه مستميلاً جمهور هذا النوع. باستخدام موازنة بلغت 140 مليون دولار، وبطولة من الصفّ الأول يتقدّمها ليوناردو ديكابريو وشون بن، أنجز مخرجنا الكبير ما يحلو له تماماً، في مبادرة سينمائية تؤكّد حرية كاملة، تكاد تكون نادرة في عاصمة الترفيه. 140 مليون دولار لفيلم يحمل نبرة نقد عنيفة؟ صدقوني، هذا لا يحدث كلّ يوم في هوليوود.

من جون فورد إلى مايكل تشيمينو، مروراً بكلينت إيستوود، تحوّلت أفلام بعض السينمائيين الأميركيين إلى وثائق درامية لفهم أميركا، أفلام تحفظ وجوهها المتعدّدة، تعقيداتها وادّعاءاتها. يمكن إضافة اسم بول توماس أندرسون إلى هذه السلسلة من دون تردد. لكن مع هذا الفيلم يأخذ أندرسون النموذج الأميركي الكلاسيكي ويعيد تطويعه وترويضه ليجعله خاصته بالكامل. يشتغل بأدوات الـ"بلوكباستر": أسلحة، سيارات، ذكورية، عنف ومطاردات… ولكن التعاطي مع هذه الأدوات مختلف تماماً. كأنه يمنحنا فرصة لإعادة اكتشافها، مجرّدة من بطولتها المفتعلة، مُنزَلة عن عرشها. الشخصيات لا تُرفَع إلى مصاف الأبطال، لكنها تُسحَق لتظهر على حقيقتها: بخوفها، بتردّدها، ببدائيتها. لا أبطال، لا وحوش، لا ضحايا. فقط بشر يشبهون المُشاهد.
من هذه المسافة بين مَن هم على الشاشة، ومَن يجلسون في مواجهتها، يولد فيلم متلوّن، ساخر، لمّاح. حتى مطاردة في صحراء قاحلة، يحوّلها أندرسون إلى قصيدة سينمائية لم يسبق لي أن شاهدت مثلها.

هل أبالغ اذا قلتُ إني رأيتُ في "معركة تلو أخرى" فيلما لفنّان فقد الأمل بعالم أفضل، يعرف أن النيات الحسنة لا تصنع العالم؟ مع ذلك، هو يعرف متى يسخر منه، متى يغضب عليه، ومتى يحزن من أجله. كلّ ذلك في جرعة متوازنة بين الخفّة والعمق، تجعل من الفيلم تجربة متاحة لكلّ الجماهير من دون أن يُضحّي بطموحه الفنّي. 
وسط هذه الفوضى، يلوح الأمل في شخصية ويللا، المنتمية إلى جيل يراهن عليه أندرسون؛ جيل يحمل في جيناته خلاصة لقاء بين عرقين، بين معسكرين إيديولوجيين. هي الشخصية الوحيدة التي يحملها على الراحات، ثم يتركها تمضي، إلى حريتها المطلقة، في عالم سيعيش معركة تلو أخرى إلى الأبد. 

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
اقتصاد وأعمال 9/29/2025 10:48:00 AM
في عام 1980، وصل الذهب إلى ذروته عند 850 دولارًا للأونصة، وسط تضخم جامح وأزمات جيوسياسية. وعند تعديل هذا السعر لمستويات اليوم، يعادل حوالي 3,670 دولارًا.
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟ 
النهار تتحقق 9/30/2025 9:34:00 AM
العماد رودولف هيكل ووفيق صفا جالسين معاً. صورة قيد التداول، وتبيّن "النّهار" حقيقتها.