داليدا وأزنافور: حكاية مهاجرين وقدرٌ واحدٌ وصداقة

أعاد جمهور داليدا وشارل أزنافور، أخيراً، اكتشاف "دويتو" جمعهما في تشرين الأول/أكتوبر 1967، وافتُتح به ألبوم تجميعي جديد بعنوان "شارل أزنافور - أجمل الأغنيات" طُرح يوم الجمعة. الأغنية ليست نادرة بالمعنى الحرفي، لكنها لم تُطرح بشكل رسمي إنما بثّها التلفزيون الفرنسي في السابع من أكتوبر 1967، ونسخة الألبوم أصفى من النسخة المصوّرة، مع تعديل بسيط على الكلمات، وتُبرز خفّة دم أزنافور وحضور داليدا الاستثنائي. وإلى جانب "Quand on s'aime" مع داليدا، يضمّ الألبوم أغنية نادرة هي "Que c’est joli, Venise" التي تتشابه و"Que c’est triste, Venise".
***
ذات مساء من كانون الأول/ديسمبر 1961. المطر يزيد باريس ألَقاً كلاسيكياً، وأضواء "النيون" الحمراء تلمع، وتدعو لحضور حفل داليدا في المسرح العتيق، "الأولمبيا". المزاج العام مكفهرّ، وقلّة حضرت، مدفوعة بفضول لرؤية السقوط المدوّي والسريع لنجمة شعبيّة؛ والذين أشاحوا بنظرهم عن عينيها الواسعتين ونظراتها الثاقبة في "الأفيشات" الضخمة - من جمهور وزملاء - إنّما انساقوا وراء حملة مقاطعة عدائية أعقبت انفصالها عن لوسيان موريس الذي ابتكر صورتها وأطلق صوتها. الصحافة انقلبت عليها، وكذا أهل المهنة؛ أصوات تعلو من هنا وهناك، تقذفها بالشتائم وتتّهمها بالجحود. قلّةٌ حضرت، مدفوعة بالحبّ... من بينهم شارل أزنافور.
قدر واحد وصداقة
لم يعرف الوسط الفنّي الفرنسي، وربّما العالمي، كثيراً من قصص الصداقة الخالصة، كتلك التي جمعت أزنافور بداليدا. وجهان جديدان، وافدان على المجتمع الفرنسي الخارج قبل نحو عقدٍ من حرب عالمية، يحملان إرث مهاجرَيْن، وإسمَيْن غريبَيْن - يولاندا جيليوتي وشاهنور فاغيناك أزنافوريان - وطموحاً واحداً.
كان أزنافور دائماً حاضراً لمساندة زميلته. لم يحلّ على الساحة الموسيقية كثر على طرازه. بدايتهما كانت من كاباريه "La Villa D'Este"، ثمّ شاركته حفلات "الأولمبيا" عام 1956 بالأغنية-الصاعقة "بامبينو"، وبعدها عام 1957 بدعوةٍ شخصية منه. وكانت داليدا واحدة من أوائل الذين أعاروا كلماته وألحانه حنجرتهم، فسجّلت ذات الشعر الداكن والعينَيْن المرسومتَيْن بكحلٍ كثيف، بصوتها العميق والجبّار و"الذي يحمل كلّ أصوات الشرق" - كما كان يقول - أغنيتَيْن صارتا اليوم من كلاسيكيات بداياتها، "Aie! Mourir pour toi" عام 1957، التي كتبها لها ثم أعاد تسجيلها بصوته، و"Pour Garder" عام 1958.
من يعرف داليدا يعرف كم كان الوقوف على خشبة "الأولمبيا" يعني لها ولجمهورها، حتّى أنّه ارتبط طويلاً باسمها. ومساء الحفل المصيري عام 1961 - والذي انتصرت فيه واستعادت معسكرها عند أغنيتها الرابعة - كان أزنافور يترقّب، يصفّق، ويرسل إليها دعماً وحرارة. "في أمسيتها الافتتاحية"، قال لاحقاً، "كنتُ في الصف الأمامي، متأهّباً للقفز إلى المسرح لأقول للجمهور: تباً لكم".
"المعسكر القديم"
ثم جاء عام 1964. موجة الـ"يي-يي" الموسيقية الفرنسية المستمدّمة من "الروك آند رول" تغزو موجات الراديو، وداليدا غير بعيدة منها. غير أنّ شيئاً ما يجب أن يتغيّر، وبيدها كلّ مفتاح. ليلة "الأولمبيا" الافتتاحية، حضر بعضٌ من وجوه الموجة الجديدة، فرانسواز هاردي وجوني هاليداي من بينهم.
أزنافور جاء بدوره ليستمتع بصوت صديقته تُغنّي أغنية جديدة من كلماته، خصّها بها، "La Sainte Totoche". أغنية مثيرة للجدل بموضوعها، مكرّسة لمآسي ربّات البيوت اللواتي يعانين إهمال أزواجهنّ. كانت تلك بداية أسلوب غنائي مخصّص لمشاعر النساء العاديات انتهجته داليدا. تحلّت بشجاعة كافية لحذف أغنيات الـ"يي-يي" من حفلها، وانهالت عليها الورود والتصفيق عند الأغنية الأزنافورية. ومع داليدا عاد "المعسكر القديم" بوجه الـ"يي-يي" - جاك بريل، جيلبير بيكو، شارل أزنافور، جورج براسانس - وكانت هي المرأة الوحيدة بينهم.
1967: العام الرهيب
إذا كان للعائلة الملكية البريطانية عامها الرهيب - Annus horribilis - وهو عام 1992، فإنّ لداليدا عامها الرهيب أيضاً، وهو 1967. عامٌ شهد انتحار - والبعض ما زال يقول مقتل - زميلها وحبيبها الإيطالي لويجي تينكو بعد فشل أغنيته في مهرجان سانريمو، ومحاولتها اليائسة للحاق به، والتي كلّفتها غيبوبةً لنحو 90 ساعة و"نزول إلى الجحيم" و"أربع سنوات من الشتاء" (1967 - 1971)، على حدّ تعبيرها، ومئات التساؤلات الفلسفية الوجودية الصعبة.
مرّة جديدة كان أزنافور هنا. بعفويّته وقلبه الطيّب والكوميديا المطبوعة بشخصيته، أراد في تشرين الثاني/أكتوبر 1967، بعد نحو ثمانية أشهر على مأساتها، وتوازياً مع عودتها إلى "الأولمبيا" في الخامس من الشهر عينه، أن يجتمع بها بـ"ديو" فكاهي، "Quand on s'aime"، يشهد على عبقريّته الشعرية والموسيقية، وعلى جمال صوت داليدا وحضورها المكرّس في كلّ المناسبات والأنماط، وعلى صداقتهما. هو بإيماءاتٍ مضحكة، يقبل بدور "قليل الشأن والهزيل" فقط لإضحاكها. وبالنفس الكوميدي عينه غنّت بعد عامٍ النسخة الفرنسية لأغنية "If I Were a Rich Man" من كلماته، وأطلقت "Si j'avais des millions".
مرّة جديدة كان أزنافور هنا، ويصعب عليه أن يترك يد صديقته، فيقبّلها ليُعلن للعالم أنّها "امرأة مذهلة (...) صديقة نادرة الوجود في هذا الوسط، مشرقة، وذات أهمّية كبيرة في حياتي".
"صديقة وفنانة استثنائية"
هي بدورها أرادت أن تكرمّه على طريقتها، فسجّلت سرّاً في السبعينيات نسخة خاصة من أغنيته المأسوية "La Mamma"، لحلقة تلفزيونية كان سيشارك بها، ولأسباب خاصة لم تكشف عنها، ليُفاجأ بها بعد نحو خمس سنوات على وفاتها، فيتأثّر بالأداء الدرامي المكثّف، ويصفها بـ"الصديقة والفنانة الاستثنائية"، واضعاً إيّاها إلى جانب إديت بياف بين أعظم المؤدّين في تاريخ الأغنية الفرنسية.
لم يُخفِ أزنافور يوماً إعجابه بداليدا، وعند رحيلها المأسوي عام 1987، قال: "منذ مطلع الخمسينيات بدأنا المشوار معاً ولم ننقطع يوماً عن بعضنا البعض. ستُفتقد كثيراً، وستبقى بلا بديل". عند افتتاح ساحتها وإزاحة الستار عن تمثالها الأيقوني في مونمارتر، كان حاضراً. وفي عام 2000، احتفاءً بذكراها، قدّم لها أغنية "De la scène à la Seine"، عبّر فيها عن عمق محبته واحترامه لها.
هذه العلاقة التي نسجت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، تبقى من أجمل الأمثلة على صداقة فنانَيْن كبيرَيْن. تلك الصداقة، الموثّقة في الأرشيف وفي ذكريات المقربين منهما، تذكّر بأن خلف الأسطورة الممسرحة، يولاندا وشاهنور فاغيناك، مهاجرين يتشاركان الحلم ويتبادلان الحبّ الخالص.