وليمة الفنّ والأرض في ريسيفي البرازيلية

البرازيل- أوراس زيباوي
أطلقت مؤسسة "مصنع الفن" (Usina de Arte) برنامجها الثقافي الجديد الحافل بالنشاطات والعروض الفنية. ثمة إجماع اليوم على أن هذه المؤسسة تعتبر من أجمل المشاريع الثقافية والتنموية الخاصة التي شهدتها البرازيل في السنوات الأخيرة. تقع بالقرب من مدينة ريسيفي التاريخية شمال شرق البلاد، في منطقة اشتهرت بإنتاج قصب السكر.
مع تبدل الأحوال الاقتصادية في زمن العولمة وانخفاض سعر السكر توقف العديد من المصانع عن العمل ومنها مصنع قديم تأسس عام 1929 وكان في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي أكبر منتج للسكر في البرازيل. يقع المصنع في مدى شاسع في قلب الطبيعة الاستوائية. وبدلا من هدمه قام الزوجان البرازيليان ريكاردو وبرونا دو كيروز بشرائه وتحويله مع محيطه الطبيعي الى حديقة فنية رائعة تضم عشرات المنحوتات المزروعة في الهواء الطلق. يشرف على توجهات هذه المجموعة الفنية الناقد الفرنسي المقيم في البرازيل مارك بوتيي وسبق له أن نظم العديد من معارض الفن المعاصر وتربطه علاقة وثيقة مع الفنانين داخل البرازيل وخارجه.
أول ما يستوقف الزائر عند زيارة الحديقة-المتحف التنوع الهائل في النباتات وعددها يتجاوز الآلاف. وكان المشرفون على المساحات المزروعة عملوا على إعادة تشجيرها من أجل استعادة الطبيعة الأصلية للأرض التي أنهكتها زراعة قصب السكر على مدى سنوات طويلة.
تنقلنا مشيا بين الأعمال الفنية في أحضان هذه الطبيعة الساحرة حيث تعرفنا الى إنجازات فنانين طليعيين من أصول وأجيال مختلفة. قبل العمل على صناعة منحوتاتهم وأنصابهم، يقيم الفنانون في المحترفات التابعة للمصنع ويتواصلون مع سكان المنطقة مما يتيح لهم اكتشاف تراثها الثقافي والتعرف عن قرب الى التحديات التي تواجه المزارعين اليوم في شمال شرق البرازيل وفي الأخص ما يتعلق بالبيئة والأوضاع المعيشية.
استوقفنا نتاج فلافيو سيركيرا (من مواليد 1983) الذي نشاهد له منحوتات تصويرية برونزية منها منحوتة ضخمة لرأس رجل تطفو على سطح الماء أنجزها عام 2016. أما كارلوس فيرغارا (من مواليد 1941) فيهجس بالطبيعة وتعكس منحوتاته المنفذة بمادة الفولاذ المصقول التحولات التي يمر بها هذا المعدن مع مرور الزمن، تماما كعناصر الطبيعة المتغيرة باستمرار.
يحضر الفنان كميل قاشاني (من مواليد بيروت عام 1963) من خلال نصب بعنوان "شجرة الكبريت"، وفيه إشارة الى الحرائق المشتعلة اليوم في العالم ومنها في غابات الأمازون في البرازيل. يستوحي الفنان أعماله من مصادر عدة أولها الطبيعة والثقافة الانسانية مع تأكيد الترابط بينهما. يؤمن أن طرق إدارة البشر للطبيعة تحدد حاضرها ومستقبلها وتحميها من الفناء. يقول إن على البشر اليوم أن يتخلوا عن غرورهم واستبدادهم، فهم ليسوا أسياد الكون وإنما عنصر من عناصر الطبيعة. الوعي البيئي هو طوق النجاة والأمل لوقف التدهور الطبيعي.
للفنانات حضور مميز في هذا الفضاء المفتوح. أنجزت كلوديا جكواريب (من مواليد 1955) للحديقة مجموعة من المقاعد المصنوعة من البلاطات الخزفية، مستوحاة من زخارف البلاط البرتغالي التقليدي الذي كان له تأثير مهم في الفنون البرازيلية منذ المرحلة الاستعمارية.
للفنانة دينيز ميلان (من مواليد 1954) منحوتات تجريدية على أسس علمية وروحية. تنحدر من أصول لبنانية (والدتها من عائلة معلوف) وهي عرفت كيف تصهر في بوتقة واحدة نحت الحجر وفنون الأدب والشعر والمسرح والفنون الرقمية. يدعونا عملها الفني المعروض في الحديقة تحت عنوان "وليمة الأرض" الى العودة الى الجذور والتأمل في الأصول ومسيرة تشكل الطبيعة منذ آلاف السنين.
تكتمل الرؤية مع منحوتة بعنوان "الطير" للفنانة الراحلة ماريان بيريتي (1927-2022) التي عملت مع المعماري البرازيلي العالمي أوسكار نيماير. يطل علينا في الحديقة طير أبيض من المعدن يستند على قاعدة هندسية وهو على انسجام تام مع الطبيعة المحيطة به.
في موازاة التجهيزات والمنحوتات في قلب الطبيعة تعرفنا الى مكتبة ومحترفات مخصصة للكبار والصغار. وتم تأسيس دار للنشر لإصدار الكتب الفنية والتراثية منها كتاب قيم وفخم بعنوان "حكاية بين السطور" يروي حكاية التطريز النسائي وصناعة السجاد في البرازيل مدعوما بالصور الملونة. منسوجات بديعة حققت نجاحا فنيا وتجاريا داخل البرازيل وخارجه، فتم تنظيم معارض حولها وهي شهادة على المسؤولية الاجتماعية ومقدرة النساء على الالتزام والمساهمة في تغيير المجتمع.