"علّمتني الحياة" لمحمد بن راشد: مرجع إنساني معرفي من القلب إلى القلب

حين يقرر قائد بحجم الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن يكتب خلاصة ستة عقود من التجربة في السياسة والحكم والحياة، فإن النتيجة لا بد أن تكون كتاباً استثنائياً يلامس القلوب قبل العقول.
"علّمتني الحياة"، ليس مجرد سيرة ذاتية ولا تجميعاً لحكم متفرقة، بل هو مرجع معرفي وفكري وإنساني، يعرض محطات عميقة من مسيرة قائد ارتبط اسمه بالإنجاز والابتكار وبناء الإنسان، وأراده أن يكون كما قال: "بسيطاً في كلماته، صريحاً في عباراته، حقيقياً في معانيه حتى يصل من القلب للقلب".
ستة عقود من التجربة
في مقدمة الكتاب، يستحضر ابن راشد رحلة امتدت قرابة ستين عاماً، تداخل فيها الإنجاز بالتحديات، الفرح بالحزن، والصداقة بالخذلان. لكنه يكتب بلغة الصافي والواثق، متأملاً أن ما يبقى بعد كل ذلك ليس ما نملك بل ما نترك من أثر. هذه الصراحة في البوح تمنح الكتاب طابعاً إنسانياً نادراً، إذ نرى حاكماً يضع نفسه في صف البشر الذين يقوون ويضعفون، يحبون ويكرهون، يتعلمون ويتغيرون باستمرار.
حكمة البساطة
من بين القصص التي تضيء الكتاب، قصة قصيدة ألقيت قبل ثلاثين عاماً، ظل بيت منها يرافق الحاكم: "أنا جيت للدنيا وأنا ما معي شي... وإن رحت منها ما معي شي منها".
تحولت هذه الأبيات إلى فلسفة في الحياة: لا نثقل الرحلة بالهموم، ولا بالتعلّق بالمظاهر، ولا بالركض وراء ما يفنى. القيمة الحقيقية ليست في الأشياء التي نكدسها، بل في الأعمال التي نبني بها حياة أفضل لغيرنا. من هنا، يصرّح: "نعم سأذهب بدون شي، ولكن سأترك مدينة جميلة وهبتها حياتي، مدينة تبهر العالم وتلهم الشعوب". هذا الوعي يضع القارئ أمام جوهر البقاء الإنساني: التواضع أمام الزمن، والعمل من أجل أثر يستمر بعد الرحيل.
فلسفة الانفتاح والتسامح
يعرض الكتاب أيضاً محطات من إرث الشيخ زايد والشيخ راشد، رحمهما الله، وكيف تجلت حكمتهما في سياسات الانفتاح والاحتفاء بالآخر. في موقف شهير، أجاب الشيخ زايد حين سُئل عن كثرة الأجانب: "الخلق خلق الله... والأرض أرض الله... والرزق رزق الله". وفي حكاية أخرى، يردّ الشيخ راشد على اعتراض تجار بشأن منح أرض لمستثمر أجنبي بسؤال بديهي: هل سيأخذ المباني معه إذا غادر؟
هذه المواقف ليست حكايات عابرة، بل مفاتيح لفهم نهضة دبي والإمارات: الانفتاح على الغريب، الترحيب بالمختلف، وبناء مجتمع متنوع تتحول طاقاته إلى ازدهار. هنا يربط ابن راشد بين هذه الرؤية والتاريخ: بغداد والأندلس ازدهرتا حين احتضنتا الجميع، وتراجعتا حين استسلمتا لسياسات الإقصاء والكراهية.
الإنسان قبل كل شيء
"علّمتني الحياة أن الأصل في الناس - جميع الناس - البراءة والخير"، بهذه العبارة يوجز ابن راشد فلسفته في النظر إلى البشر. الاختلاف قدر محتوم، لكن إدارته برحمة وحكمة هو ما يصنع السلام والازدهار. فبقدر ما يتسع العقل، يتسع القلب، وبقدر التسامح تزدهر الأوطان وتكثر الخيرات.
في هذا الطرح، يلتقي الفكر القيادي مع العمق الإنساني. فالحاكم لا يُعرّف هنا بسلطته بل بقدرته على إدارة المخاوف، وتوجيهها نحو التعايش بدلاً من التنافر.
أثر خالد
الكتاب، إذاً، ليس مجرد توثيق لتجربة شخصية، بل هو درس ممتدّ للأجيال المقبلة. إنه حوار صريح مع الذات ومع الآخر، يضع القارئ أمام مسؤولياته: أن يعيش ببساطة، أن يعمل بصدق، وأن يترك أثراً نافعاً.
في زمن التحولات والتحديات، يأتي "علّمتني الحياة" ليعيد التذكير بأن المعنى الأعمق للحياة ليس في الاستعراض ولا في التملك، بل في ما نتركه من قيم وإنجازات تشهد علينا. وكما كتب الحاكم: "الدائم وجه الله، ونحن وهذه الأرض وما عليها ملك له وحده".
بهذا المعنى، يصبح الكتاب وثيقة روحية وفكرية، مرجعاً لا يخص الإمارات وحدها، بل كل قارئ يبحث عن الحكمة وسط ضجيج العصر.