
العمل الصحافيّ كالوشم، لا يمكن محو أثره بعد وشمه. وتأتي دلالاته كالسهم الناريّ، لا يمكن إعادته بعد إطلاقه، فإمّا أن يصيب العقول بالدهشة، أو أن يندثر من دون أن ينشر البهجة في الفضاء لخطأ في صناعته. فالمقال حين يُكتب ينطلق من الكيان الفكريّ للصحافيّ مرّة، وحين يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي يُطلق من يده مرّتين، لكن حين يُطبع يخرج من كيانه إلى الأبد، ليدخل الغدّ معبّراً عن رضاه بما كتبه في يومه.
بتقنية عالية كصناعة الوشم كتبت ميشلين مبارك مقالاتها، منتهجة أسلوب البحث العلمي، والنقد الموضوعي، هادفة إلى إظهار الأسباب والدوافع، والنتائج الإيجابيّة والسلبيّة بجديّة ورصانة. فجاء كتابها "أضواء ثقافيّة" محمّلاً بكلّ الوفاء الذي أعطته لحرفها من أجل خدمة الصحافة والأدب.
ضمّ الكتاب ستة وعشرين مقالاً، موزّعين على بابين: الباب الأوّل تحقيقات ثقافيّة، والباب الثاني حوارات ثقافيّة. نُشرت هذه المقالات في موقع ضفّة ثالثة- العربيّ الجديد، وموقع الميادين نت الثقافيّة، ومجلّة الأمن، وجريدة الّلواء ورقيّاً وإلكترونيّاً.
لم تقتصر هده المقالات على مجال واحد، بل توزّعت على الثقافة والأدب والمرأة والمسرح والآثار والنشاطات الثقافيّة كافة... وكان الواقع مُلهم الكاتبة، حيث انطلقت منه من دون أن تستخدم تعابير لاذعة حين يتطلّب الموضوع ذلك، على الرغم من مأساويّة هذا الواقع. بل كان أسلوبها الأدبيّ سلساً وجميلاً يشدّ القارىء بالعقل والمنطق وعمق الحوارات، وبساطة السرد البعيد عن التصنّع الذي أضاف جمالاً على كلّ مقال.
المواضيع التي طرحتها ميشلين مبارك في هذا الكتاب، لايمكن حصرها في قراءة واحدة متواضعة كقراءتي هذه، لكن يمكن للقارىء أن يكتب بنماذج محدّدة منه، ولا يستطيع أن يلقي الضوء على مجمل ما ورد من مواضيع لشموليّة الطرح إلى حدِّ ما.
في رحاب الفنّ ضمن المنتظم العالميّ، فلسفة الابداع. فالرسم ليس معادلة الجزئيّات، بل تخطّت نظمه الفيزياء. لذلك وضعتنا مبارك في مرحلة استيلاد الأنساق المختلفة عند تفجّر اللحظات المفصليّة، وتحوّلها لتلامس الجمال في يقين التجربة التي تكتنف سرّ أسرار الرسم: "لاحقاً من بيكاسو نكتشف كسر التابو التقليدي للعري خصوصاً مع لوحة "سيدات أفينيون" (1907) التي صوّر فيها خمس نساء عاريات ... وقد مهّدت هذه الّلوحة للفنّ الحديث من حيث لا يدري بيكاسو نفسه، إذ اعتُبرت في ما بعد كمقدمة لأسلوب "التكعيبيّة في الفن". (صفحة 15).
ضمن مقال "إسرائيل... ومحاولة تصفية هُويَّة شعوب وحضارات"، أطلقت الكاتبة صرخة مدوّية، ترددت أصداؤها في عبق التاريخ المجيد، وفرادة الأمكنة الأثريّة في لبنان، من أجل بناء الوعي الوطني. فالتاريخ بالنسبة إليها يقف منتصباً في وجه الأيديولوجيّات الخارجيّة المستوردة من الشرق أو الغرب. فقد ذكرت من ضمن تقرير لجنة مهرجانات بعلبك بعدما قصفت إسرائيل محيط القلعة: "تاريخ بعلبك يعود إلى أكثر من 11 ألف عام، حيث يحتوي موقعها آثار فينيقيّة ورومانيّة وعربيّة، وتُعتبر هياكلها ومعابدها الرومانيّة من الأكبر والأكثر حفظاً في العالم." (صفحة 25).
قد يتوه المرء في عمق التأويلات الأدبيّة، أو مجاهل التحقيقات والحوارات الصحافيّة. لكنّ ميشلين مبارك، استجلت برؤيتها المتبصّرة أعماق الدلالات المعرفيّة، وعرضتها بأسلوب محبّب وواضح وبسيط، وبخاصة في كلّ مرّة قدّمت فيها المُحاوَر، قبل الغوص في أجوبةٍ عن أسئلةٍ هادفة. ففي تعريفها للكاتبة علوية صبح -على سبيل المثال لا الحصر- كتبت في الصفحة 83: "إذا أردت، أيّها القارئ، أن تعشق الحياة، فليس عليك إلّا أن تقرأ لعلوية صبح، وإن شئت ان تهادن النفس بالفرح رغم (الكآبة الّلبنانيّة) غير الموصوفة، فليس عليك إلّا أن تغوص في رموز رواياتها وآخرها رواية (إفرح يا قلبي)."
نقع في معظم التحقيقات والحوارات على نوادر أدبيّة وعلميّة، فلم يخلُ مقال أو حوار من موقف لافت، عرضته ميشلين مبارك بكلّ أمانة على المتلقّي. نقتطف منها قول لألبرت أينشتاين ورد في الصفحة 39: "لقد غيّر إطلاق الطاقة الذريّة كلّ شيء باستثناء طريقة تفكيرنا... يكمُن حلّ هذه المشكلة في قلب البشريّة. لو كنت أعلم ذلك، لأصبحت صانع ساعات.". وعن لسان الصحافي والأديب إسكندر داغر، خلال حوار كانز، دوّنت مبارك في الصفحة 161: "في رأيي، إنّ التكريم الأبقى هو الذي ينبع من تُراث المُبدع."
عوداً على ذي بدء، انطلقت حروف ميشلين مبارك مفرقعات ناريّة في فضاء الثقافة، وسطّرت مقالات مبهجة فاجأت الأوراق والقرّاء. فأذهلتنا هذه الحروف بنعمة الصدق والوفاء للأدب والصحافة.