اليمين الشعبوي وعودة نموذج "الحزب الجماهيري"

يسود انطباع في حقل العلوم السياسية المعاصر بأنّ نموذج "الحزب الجماهيري" التنظيمي هو من مخلفات القرن العشرين، وهو انطباع وجيه للوهلة الأولى، لاسيما عند النظر في الحال التنظيمية لأحزاب الوسط واليسار، لكنه قاصر عن إدراك الوضع التنظيمي لأحزاب اليمين المتطرف الشعبوي الصاعدة في كل مكانٍ.
هذا ما يفنده الكتاب الجماعي الصادر أخيراً عن جامعة أوكسفورد "أحزاب اليمين المتطرف الشعبوية في العمل: بقاء حزب الجماهير"، وهو من تأليف دانييل ألبرتازي، وستيجن فان كيسيل، وأدريان فافيرو، ونيكو هاتاكا، وجوديث سيسترمانز، وماتيا زوليانيلو. ويقدم تحليلاً نوعيٍاً مُعمّقاً لأربعة أحزاب يمينية راديكالية شعبوية بارزة في أوروبا الغربية هي: رابطة سالفيني بريميي الإيطالية، والحزب البيروسوماليسيت الفنلندي، والحزب الشعبي السويسري، وحزب فلامز بيلانغ البلجيكي. ويثبت من خلال البيانات أن الحزب الجماهيري لا يبقى فحسب، بل يزدهر في القرن الحادي والعشرين، مُشكّلاً أداةً تنظيميةً وأيديولوجيةً حاسمةً لهذه الأحزاب. فهو نموذج يتميز بعضوية ناشطة كبيرة، وتجذر محلي، وتشكيل نشط للهويات الجماعية من خلال الأيديولوجية، ويوفر مزايا واضحة لا تستطيع النماذج الخفيفة الوزن، أو المهنية الانتخابية، أو التي تركز على القادة أن تضاهيها، وبخاصة بالنسبة إلى الأحزاب التي تسعى إلى إظهار صورة كونها الصوت الأصيل "للشعب''.
وترتكز الدراسة على ثلاثة أسئلة بحثية جوهرية: أولاً، لماذا تختار نخب برنامج الإصلاح والتغيير المجتمعي الحفاظ على نموذج الأحزاب الجماهيرية رغم تعقيده التنظيمي وتكلفته؟ وثانياً لماذا يُكرّس أعضاء القواعد الشعبية وقتهم وطاقتهم لهذه الأحزاب، مواجهين غالباً وصمة اجتماعية، في حين تُمنح لهم سلطة اتخاذ قرار رسمية محدودة نسبياً؟ وثالثاً ماذا يُخبرنا استمرار هذا النموذج عن التطور الأوسع للأحزاب السياسية في الديموقراطيات المعاصرة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة، أجرى المؤلفون 225 مقابلة، في مناطق متعددة في كل بلد، مُستكملين بتحليل الأنظمة الأساسية للأحزاب، والمخططات التنظيمية، وغيرها من الوثائق الأولية. ويقدم المؤلفون تعريفاً دقيقاً للحزب الجماهيري الحديث، مستخلصين سماته الرئيسية من أعمال دوفيرجيه وبانيبيانكو. ويحددون ثلاث سمات أساسية له، أولها تنمية مجموعة أساسية من المتطوعين النشطين الذين يمكنهم القيام بحملات، وحشد الدعم، والعمل كسفراء للحزب في مجتمعاتهم. وثانياً إنشاء شبكة كثيفة من الفروع المحلية التي تعمل كمراكز لنشاط الحزب وبناء المجتمع وصيانتها. وأخيراً يعمل الحزب بنشاط على تكوين أعضائه اجتماعياً، وتشكيل تفسيراتهم للأحداث السياسية وتعزيز هوية قوية مشتركة تستند إلى الأيديولوجية الأساسية للحزب.
ومن خلال تحليل المقابلات نجد أن الدافع الرئيسي للانضمام والبقاء بالنسبة إلى أنصار الأحزاب الجماهيرية هو الحوافز المعنوية. فالأعضاء مدفوعون بشكل كبير بتوافقهم التام مع أيديولوجية الحزب، وإيمانهم بأن نشاطهم قادر على إحداث تغيير سياسي هادف. فهم ينضمون لمحاربة الهجرة، والدفاع عن السيادة الوطنية، وحماية القيم التقليدية، أو لتحدي النخبة الفاسدة. ويعتقد الأعضاء أن حزبهم، كجماعة، فعال. وقد يدركون محدودية تأثيرهم الفردي على القرارات الداخلية للحزب، لكنهم يؤمنون إيماناً راسخاً بأنهم، من خلال كونهم جزءاً من الحركة، يساهمون في مشروع سياسي أكبر وأكثر أهمية. إن هذه "الفعالية الجماعية" تبدو بالغة الأهمية كطريقة لصناعة المعنى والالتزام. وبينما تهيمن الحوافز الهادفة، تزداد أهمية الحوافز المجتمعية والشخصية للاحتفاظ بالأعضاء. يصف العديد من الأعضاء الحزب بأنه "عائلة" حيث وجدوا أصدقاء مقربين وشبكة دعم حيوية. وهذا أمر بالغ الأهمية بالنظر إلى الإقصاء الاجتماعي الذي يُبلغ الكثيرون عن معاناتهم منه بسبب انتمائهم السياسي. إن الانتماء إلى مجتمع من الأفراد "المتشابهين في التفكير" الذين يشاركونهم قيمهم ويتفهمون معاناتهم يمنح شعوراً قوياً بالانتماء والدعم العاطفي. كما يوفر هذا المجتمع إشباعاً شخصياً وتحفيزاً فكرياً وشعوراً بالإنجاز. وبالنسبة إلى البعض، فإن عضوية الحزب "منحت حياته هدفاً".
كما يتناول الكتاب معضلة "المشاركة من دون سلطة"، إذ يدرك الأعضاء عموماً أن سلطة اتخاذ القرار الحقيقية تقع على عاتق القيادة، وغالباً ما يتقبلون ذلك. ويُقدّرون سهولة التواصل مع الممثلين المحليين والشعور بأن أصواتهم مسموعة، حتى مع علمهم بأن مساهماتهم قد لا تُفضي دائماً إلى تغييرات في السياسات. ولا يُعتبر غياب السلطة الرسمية عائقاً، لأن الأعضاء يستمدون رضاهم من مصادر أخرى: هدف نشاطهم، وروح الزمالة في المجتمع، والإيمان بالتأثير الجماعي لحزبهم. أما الوصمة التي يواجهونها، مع أنها تُشكل تكلفة شخصية كبيرة ، فإنها تُعزز، على نحو متناقض، الروابط الداخلية، ما يُنشئ عقلية "نحن ضدهم" التي تُعزز تماسك المجموعة.
يُلخص الفصل الختامي النتائج، مُجادلاً بأنَّ الحزب الجماهيري ليس نتاجاً تاريخياً، بل هو نموذج تنظيمي قابل للتطبيق وفعال في القرن الحادي والعشرين. وقد نجحت برامج إعادة التأهيل المجتمعي الأربعة التي دُرست في تكييف هذا النموذج مع السياق الحديث، مازجةً النشاط التقليدي المباشر مع الأدوات الرقمية الحديثة. وبينما تُعتمد وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل والتواصل الداخلي، تُؤكد جميع الأحزاب وأعضاؤها أنها تُكمّل التفاعل الشخصي، لا أن تحل محله، وهو أمرٌ يُنظر إليه على أنه أساسي لبناء الثقة والتضامن والشعور الحقيقي بالانتماء إلى المجتمع. إن بقاء الحزب الجماهيري بين أحزاب النخبة والأحزاب الانتخابية يُشكِّل تحدياً للرواية السائدة حول تطور الحزب. فهو يُظهر أن التحول عن العضوية الجماهيرية والنشاط الشعبي ليس أحادي الاتجاه أو حتمياً، إذ يُمكن أن تتعايش نماذج حزبية مختلفة، وغالباً ما يكون اختيار النموذج "نتاجاً أيديولوجياً" يخدم أغراضاً استراتيجية ورمزية محددة. لذلك فإن الحزب الجماهيري، في أيدي اليمين المتطرف الشعبوي، لا يكتفي بالبقاء فحسب؛ بل يُظهر قدرته الدائمة على التعبئة وإضفاء الشرعية وتشكيل المشهد السياسي في أوروبا المعاصرة. ويخلص الكتاب إلى أن مزاعم الزوال النهائي لهذا النوع من الأحزاب سابقة لأوانها، ما يحث الباحثين على النظر إلى ما وراء أوروبا الغربية لاستكشاف كيف يستمر هذا النموذج القابل للتكيف في التطور والازدهار في سياقات سياسية مُتنوعة.