ثقافة 21-09-2025 | 21:37

خوان غويتيسولو الموريسكي الذي أعاد تأسيس مراكش

"من الآن فصاعدًا يُعتبر المغرب بصفة عامة، ومراكش بصفة خاصة، جزءًا لا يتجزّأ من حياتي"
خوان غويتيسولو الموريسكي الذي أعاد تأسيس مراكش
الكاتب والمفكر الإسباني خوان غويتيسولو.
Smaller Bigger

هناك كُتابٌ تصنعهم بلدانُهم، وتبنيهم ثقافتُهم، وتقدح زنادَهم مواهبُهم؛ وآخرون، بعد أن  ازدانوا بهذه الخصائص، تلقاهم هم من ينشئون العُمران، وينتجون الثقافة، ويبُرعمون الإبداع، يُشعرونك، بل يفحمون بأن الأدب رسالة أخرى إلى جوار رسائل الأنبياء لأنها تطمئن الرّوحَ وتخدُم الإنسان.

الكاتب المثقف والمفكر الإنساني الإسباني القشتالي خوان غويتصولو من هذا الرعيل، ونظيره في القرن العشرين وما تلاه نادر وفريد، لسبب أساس يتقدم على غيره، أنه بعد أن ثبّت قدميه في الأرض الصّلبة لثقافة أمته، وتشرّبها، مع أهواء الشباب وحماستهم، في البيئة المتوترة والغنية لكتالونيا - برشلونة، حيث وُلد، حلّق منها إلى آفاق شاسعة، بدأت في فرنسا وعديد قارات ليحُطّ أخيراً في جنوب المغرب، بمدينة مراكش.

الأديب المترجم المغربي إبراهيم الخطيب المتخصص في منجز غويتصولو، وصاحبه سنين طوال صُحبةَ المُريد، وترجم أعمالاً مهمة له، هو من يروي سيرته، كرّس لها دراسات ومقالات، وعرّف بها وبصاحبها في المغرب وخارجه، وخصّص لها أخيرًا كتابًا مستقلًّا بعنوان "هجرة آخر الموريسكيين" (منشورات المتوسط) يعرّفنا بثقة وسند بهذه الشخصية وآثارها في خدمة القيم الرفيعة للثقافة الإنسانية، ومحبة الثقافة العربية الإسلامية وتبجيلها، وتبنّي التراث الموريسكي باعتباره مكوِّنًا جوهريًّا للثقافة الإسبانية وللهوية العميقة للكاتب. من عُرف روائيًّا بالدرجة الأولى بعد أن تخلص من تبعات الالتزام السياسي وكتاباته، وقد فطن للغنى الأدبيّ الزّاخر لأدب بلاده، وآداب أميركا اللاتينية، وأخلص لفنه بعد انتقاله إلى فرنسا نهاية الخمسينات، وتخمته من الأجواء الباهرة للأدباء والفنانين، انتبذ له ركنًا في حي "سانتيي" بقلب باريس، حيث تعرّف على الكاتب اللعين جون جوني (1910-1986) واتخذه قدوة - هما بميول متقاربة - وعكف منذئذ على مشروعه السردي استهلّه برواية  "Juegos de manos" ("لعب الأيدي" 1054) وتواصل في سلسلة روايات ثلاثية أبرزها "Don Julian"، وترجم له الخطيب ثلاث روايات: "La cuarentena" ("الأربعينية" 1994)، و"Semana del jardin" ("أسابيع الحديقة" 2000)، و"El Sitio de los Sitios" ("حصار الحصارات" 1995). سبق أن ترجم جهاد كاظم لمجلة "الكرمل" كتاب "يوميات فلسطينية" (Diario palestino) وكتاب "Cronicas sarracenas" عنونه "حوليات شرقية" إذ معلوم أن غوتيسولو توزّع بين الأدب والتحقيقات السياسية والقضايا الملتزمة ما نجده في ترجمة طلعت شاهين: "دفاتر سراييفو"، وعن الأراضي الفلسطينية المحتلة "لا حرب ولا سلم"، وكتابه عن حرب الشيشان، نُشر مقالات قبل جمعها في جريدة "الحياة" اللندنية مما أشهر الكاتب لدى الجمهور العربي بحكم انتشار الصحيفة. شهرة تعززت بترجمة كاظم جهاد لمختارات للروائي القشتالي في كتاب بعنوان "وتيرة النوارس" (دار توبقال المغربية).

 

غلاف كتاب “هجرة آخر الموريسكيين“. (منشورات المتوسط)
غلاف كتاب “هجرة آخر الموريسكيين“. (منشورات المتوسط)

 

بعد تخمة الإقامة الفرنسية ستحدث النقلة الكبرى والحاسمة في حياة غويتيصولو، بزيارة أولى إلى مدينة طنجة بإقامات متقطعة، في نهاية الستينات، وهي قبل هذا التاريخ وبُعَيده، قبلة أدباء وفنانين غربين كثر، ماتيس أحدُهم، وجون جوني، وشيخُهم بول بولز الروائي والموسيقي، الذي دوّن سيرة محمد شكري "الخبز الحافي" شفويًّا مما دفع شكري إلى تسطيرها بعربيّته. سيعتبر غويتصولو قدومه إلى المغرب، ثم انتقاله للاستقرار فيه، بمثابة عودة وعي، وتتمة لانفتاحه على ثقافات ولغات وأنماط عيش ومجالات جغرافية أخرى، والاستمداد من فضائلها وصياغة سُلّم قيم خاص به.

يُقرّ الروائي القشتالي بأن دَيْنه إزاء المغرب كان درسًا حاسمًا نظرًا لأن "اكتشاف فضاء اجتماعي وثقافي أجنبي وسبره لم يتوان أن صار رويدًا رويدًا إعادة تملّكٍ لشيء سبق أن كان لنا في الماضي ويجب أن يعود إلينا اليوم" (49). تكررت زياراته إلى طنجة وفاس والرباط، إلى أن يصل إلى الدرجة التي يقول فيها: "من الآن فصاعدًا يعتبر المغرب بصفة عامة، ومراكش بصفة خاصة، جزءًا لا يتجزّأ من حياتي. بد أنه إذا كان جهدي الإبداعي وثيق الصلة وإلى الأبد بالتراث الإنساني، فإن صداقتي الراهنة للإسلام ولكبار شعرائه الصوفيين (...) تمنحني إحساسًا بأنني في بيتي" (50).

 

مقهى “ماطيش الشعبي“ والمعلم صاحبه حيث كان يجلس غويتسولو. (أرشيفية)
مقهى “ماطيش الشعبي“ والمعلم صاحبه حيث كان يجلس غويتسولو. (أرشيفية)

 

ولقد أصبحت مراكش مدينتَه وبيتَه، وسكانها أهله وأصحابه، وصومعة الكتبية توأم صومعة إشبيلية، وأزقتها، وساحة جامع لفنا ذات الشهرة العالمية فضاءه الحميم حيث يجلس في "مقهى ماطيش" يرسل البصر ويلتقط حياة البشر، فإذا كانت الرتابة تعكِّر صفاء الرؤية، بل تحجُبها، فعنده أن الأجنبيَّ يُحسن التقاط الأشياء. وهنا خزّن الكثيرَ ودوّنه في رواياته اللاحقة منذ السبعينات، ومن أجل هذه الساحة قام غوتيسولو بما يمكن أن نسميَّه من دون مبالغة ثورةً ثقافية صغيرة، حين قدّم مشروعًا إلى منظمة اليونسكو حشد له سياسيين وأدباء وفنانين من العالم لتسجيلها في قائمة جديدة للتراث العالمي باسم "التراث الشفوي اللاّ مادّي" ونجح في مسعاه. وللتذكير، فإن ساحة جامع لفنا عبارة عن مهرجان مفتوح من الشروق إلى الغروب لحلقات الحكواتيين والزجالين ومرقصي القردة والحُواة وباعة كل شيء والمشعوذين، وفقهاء يكتبون الحروز للنساء ويدّعون ربط السحر وفكه. ساحة ارتادها المشاهير من إيزنهاور إلى الأخوين طارو (Tharaud) فإلياس كانيتي بكتابه الشهير "أصوات مراكش"، وانتهاءً بخوان غويتيصولو، رغم أن المدينة لا ينقطع توافد مشاهير العالم إليها، تبقى له، هي معلومة بمدينة "سبعة رجال" وهم أولياؤها ومشايخها بضرائحهم، وهو ثامنهم.

لا عجب يمحضها الحبَّ كلََّه، ويقدم عنها هذه الشهادة الهالة: "هناك فقط، مدينة واحدة مخصوصة تعمل اليوم على حماية تراث الإنسانية الشفوي الموشك الانقراض، والذي يُنعت من طرف العديدين باحتقار كتراث "عالمثالثي": إنني أعني مراكش وساحة جامع الفنا التي يحلو لي بجوارها، ومنذ نحو عشرين سنة، أن أكتب وأتسكّع وأعيش" (58). ما لم يمنعه في الأخير من ترك وصية بأن يدفن في جوار حميمه جان جوني في المقبرة البحرية بالعرائش، شمال المغرب، إذا زرت قبريهما فسترى شاهدتيهما تعبران الأطلسي نحو آفاق العالم.

 

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".