تحت شمس البينالي في ساو باولو... أكثر من مئة فنان يعبرون الطرق الإنسانية
أوراس زيباوي
تحت عنوان "ليس كل المسافرين يعبرون الطرق، عن الإنسانية كممارسة"، مستلاً من قصيدة "عن الصمت والهدوء" للشاعرة البرازيلية كونسيساو إيفاريستو، تتواصل في مدينة ساو باولو الدورة السادسة والثلاثون لبينالي الفنون الحديثة والمعاصرة وهو أقدم وأعرق بينالي في العالم بعد بينالي مدينة البندقية في إيطاليا.
في مبنى زجاجي حديث صممه عام 1954 المعماري البرازيلي العالمي أوسكار نيميير لمناسبة الاحتفال بمرور 400 عام على تأسيس مدينة ساو باولو، تحوطه حديقة شاسعة تعد رئة المدينة، من تصميم البرازيلي أوتافيو مينديس، أحد أشهر مصممي الحدائق في العالم، درجت العادة منذ عام 1957 أن تقام فعاليات البنيالي في هذا الصرح الهائل لما يتمتع به من مزايا عمرانية فريدة تسمح بالعروض الفنية بكل أنواعها. يشرف على هذه الدورة الجديدة الكاميروني بونافونتور سوه (من مواليد العاصمة ياوندي في عام 1977)، كاتب وناشط ينظم باستمرار معارض للفن المعاصر كما يدير "بيت ثقافات العالم" في مدينة برلين حيث يقيم.

يشارك في البينالي أكثر من مئة فنان من جنسيات وأجيال مختلفة تعكس أعمالهم تنوع التوجهات الفنية والإنسانية لفنانين قادمين من البرازيل وبقية دول العالم. يعبر هؤلاء في نتاجهم عن رؤيتهم لقضايا الماضي والحاضر والمستقبل بعيدا من المركزية الغربية التي هيمنت منذ خمسة قرون على بقية الثقافات بسبب الإرث الاستعماري والنظريات العنصرية التي نادت بتفوق الانسان الأبيض على باقي الأعراق والشعوب.
تتوزع الأعمال الفنية على ثلاث طبقات ممتدة على 30 ألف متر مربع وهي متنوعة الوسائط والتقنيات وتشهد لحضور فن التجهيز في المشهد الفني المعاصر اليوم.
عندما ندخل الى مبنى البينالي يطالعنا تجهيز لحديقة من تصميم الفنانة والكاتبة النيجيرية الأميركية بريشيوس أوكيومون (من مواليد عام 1993) يضم عناصر الطبيعة، التراب والصخور والأشجار وبركة مياه تعكس عالم هذه الفنانة التي تهجس بالطبيعة وتروي أسرارها مع حكايات الهجرة الافريقية بأسلوب شعري نجده أيضا في نصوصها المكتوبة باللغة الإنكليزية، كما في كتابها الأخير "هل رحلت؟" الصادر العام الماضي.

تحضر الطبيعة أيضا في تجهيز للفنانة البرازيلية الرائدة ماريلين ألميدا (من مواليد عام 1942) التي أمضت أكثر من خمسين عاما تتأمل المشاهد الطبيعية البرازيلية، كما درست الفلسفة والعلوم، فجاء نتاجها ليتوج مسيرة مميزة عرفت كيف تصهر في بوتقة واحدة الحس الشعري والجمالي من جهة والوعي البيئي المدعوم برؤية علمية من جهة أخرى.
أما تجهيز الفنانة الفرنسية كارلا غوييه (من مواليد عام 1997) فيضم منحوتات نسائية مصنوعة من الطين تعالج قضايا المرأة والانتماء والذاكرة والهجرة والتهميش وتلاقي الثقافات بين أفريقيا وآسيا وأوروبا. ولدت الفنانة في فرنسا في كنف أسرة قادمة من السنغال. تهجس أعمالها بأصولها الافريقية كما تستوحي من الفنون الحرفية المحلية.
يستوقفنا تجهيز للفنان البرازيلي أنطونيو تارسيس (من مواليد عام 1995) مكون من جداريات حمراء شاسعة مصنوعة بإتقان وروح هندسية وتحتل مساحة كبيرة في البينالي. يعتمد الفنان على المواد التي يعثر عليها في الشوارع مثل علب الكبريت والنفايات الالكترونية فيعيد تركيبها فنيا بأسلوب متين ويعبر من خلالها عن مواضيع تتعلق بالاستعمار وإبادة السكان الأصليين ومعاناة السود والتهميش السياسي.

لا تنحصر الأعمال الفنية المعروضة بفن التجهيز بل تشمل أيضا اللوحات التشكيلية ومنها لمجموعة كبيرة من الفنانين المكرسين أولهم اللبنانية الراحلة أوغيت كالان، ابنة الرئيس بشارة الخوري، التي نشاهد لها مجموعة من لوحاتها التجريدية عبرت فيها عن علاقتها بالجسد الأنثوي بخطوط دقيقة قائمة على التوازن والايحاء والفراغات.
تحضر أيضا لوحات قيمة لفنانين راحلين من الرواد من المغرب، الفنانة شعيبية طلال التي جاءت الى الفن بالمصادفة، هي التي تزوجت في سن المراهقة وعانت من الفقر والحرمان. وبعد اكتشاف النقاد الغربيين موهبتها وهي في العشرينات من عمرها، فرضت شعيبية نفسها فنانة عصامية متميزة، لها أسلوبها الخاص القائم على الروح الفطرية التي تذكر برسوم الأطفال.
دائما من المغرب، نشاهد أعمالا للفنانين الراحلين محمد المليحي وفريد بلكاهية. أما الفنانة الرائدة مليكة أكزناي (من مواليد عام 1934) فتشارك في البينالي مع ابنتها الفنانة أمينة أكزناي (من مواليد عام 1963) وتعكس هذه المشاركة بين جيلين مختلفين تنوع توجهات الفن المغربي الحديث ونهله من المؤثرات الغربية والمحلية.

في مجال الصورة الفوتوغرافية تبرز مساهمة ليلى علوي (1982-2016) التي راحت ضحية اعتداء إرهابي تبنته منظمة "القاعدة" في بوركينا فاسو حيث كانت تقوم بتحقيق مصور لمنظمة العفو الدولية. الصور المعروضة بالأبيض والأسود تشهد لموهبتها وروحها الانسانية وتجسيدها للاختلافات الثقافية والاجتماعية في بلدها.
من المغرب الى الجزائر مع الفنان المتعدد الوسائط قادر عطية المولود في فرنسا عام 1970 والحائز جوائز عدة منها جائزة مارسيل دوشان الفرنسية عام 2016 وجائزة بينالي القاهرة عام 2008. نشاهد له في البينالي فيلما جميلا بعنوان "الحقيبة الضائعة" يعالج فيه من خلال لقاءات مع عدد من الشخصيات منها والدته والباحثة فرنسواز فيرجيس، مواضيع تتعلق بمعاناة المرأة والارث الاستعماري في الجزائر والتنوع الاجتماعي والسياسي.
بينالي ساو باولو دعوة الى أنسنة هذا العالم من خلال الفن في زمن صعود الأفكار الفاشية وتيارات التعصب الديني والقومي في عدد كبير من دول العالم اليوم.
في موازاة الاحتفاء بالفنون البصرية والتشكيلية تبين هذه التظاهرة العالمية الكبيرة كيف يمكن الفن أن يؤثر على الوعي الثقافي في المجتمعات وأن يساهم في نشر فكر التسامح والتعايش مع الآخر المختلف.
البينالي دعوة الى إعادة النظر في الطرق التي نسلكها والى استكشاف طرق جديدة وبديلة بعيدا من المفاهيم التقليدية والمهيمنة في العالم اليوم بحثا عن عالم أكثر إنسانية ورحمة.
نبض