رسالة من "الهُناك"... توقيع زياد الرّحبانيّ

ابتسام غنيمه
بعد أربعين يومًا على رحيل زياد الرّحبانيّ، أرسلتُ إليه رسالةً كي أعرف كيف كانت رحلته إلى "الفَوق"، وهل بلغه بخير. فوردتني منه الإجابة الآتية:
صديقتي "ملّا إنتي"،
لم أستطع أن أراسلك قبل اليوم لأنّني تأخّرت في الوصول، ليس بسبب زحمة السّير كما يحدث عندكم، فالطّريق واسعة وِسع الكون، ولكنّني لَهَوت بعض الشّيء، خصوصًا في بداية المشوار، فتأخّرت وأخّرت جند السّماء المرافقين.
"بصراحة" صديقتي، "كان عا بالي" أكتب مسرحيّة أخيرة، لكنّ الوقت داهمني؛ إلّا أنّني ما إن انطلقتُ من عالمكم، حتّى التفتُّ إلى الوراء، فوجدتُ مسرحيّتي الأخيرة تخطّ أحرفها بنفسها. نظرتُ إلى وسائل التّواصل الاجتماعيّ التي شغلتُها لبضعة أيّام أكثر ممّا شغلتُ العالم طوال وجودي بينكم. لكم أثّرَت فيّ كلمات وجدانيّة نابعة من ألم الغياب، وكم استفزّتني ثمّ رسمَت ابتسامة ساخرة على وجهي كلمات تبثّ سموم الاغتياب، مضيفةً إلى حياتي الخاصّة وحرّيّتي الشّخصيّة توابلَ فاسدة لا تهمّ مَن أحبّني. هؤلاء "ما شالوا الصّبّاط اللي موجود بنفسيتن وخَبّصوا بوحل كلماتن"، بس "مش فارقة معاي".
ثمّ التفتّ إلى حيث يستريح جسدي استراحته الأخيرة، فرأيت ريما الحبيبة، العقل والقلب، تسند سيّدةً جبّارة واجهتْ عواصف الحياة بصلابة الإيمان، وغزَت العالم بصوت تجثو على وَقْعِه الملائكة ممجّدة الله، تحملُ آلامها في قلبها، وعلى وجهها سلام ملؤه الرّجاء، تقول لِمَن يتساءل عن دمعتها: "إذا ما بكينا ولا دمّعنا/ لا تفتكروا فرحانين". فانهمرت دمعة من عيني اليمنى حزنًا على ألم سفيرتنا إلى النّجوم، ودمعة من اليسرى على مأتم تحوّل إلى استعراض: فالبعض أتى ليشاهد فيروز، والبعض أتى لترى أناقته الجموع ووسائل الإعلام، وهناك من أتى لتراه فيروز ويعرّفها بنفسه... وهي لا تعرف معظم هذه الوجوه التي ما أتت إلّا لتَظهر على الشّاشات بمشهديّات تثير القرف والشّفقة. أيقونة الغناء "بتعرف هالحكي... حافظة هالحكي/ كلّ الحكي حلو"، لكن، بالنّسبة إلى مَن رفَعت صوتها مرنّمة: "أنا الأمّ الحزينة"، كان أكثر ما تتمنّاه الصّلاة... وقلّة أتت لتصلّيَ.
فرفعتُ صوتي صارخًا: "مش قصّة هاي... هالوداع عمرو ما يكون... شو هالجرصة العالميّة.... حلّوا عن إسمي وحروفو... ما بدّي عزا من ناس همُّن الوجاهة حتّى ولو كان عندن مكانة وصيت كبير... بدّي عزا فيه صلا، فيه صمت، فيه مؤمن بالكتب السّماويّة، فيه الله!"
"أنا مش كافر"، أنا ثائر!
ثائر على الجوع، على المرض، على الفقر والذّلّ، على رجال الدّين، على بلد فيه المسؤول "شيخ الكافرين".
ثائر على الطّائفيّة، على شعب هو من "روّاد الأبجديّة"، لكنّه لا يدرك، ولا يستيقظ، ولا يعي، ولا يفهم بأنّه يُقدَّر بشخصيّته وعقله، لا بجَيبه: "حامل ليرة بتسوى ليرة"... "ههههه من وَين بَدنا نجيب اللّيرة؟ كلّنا صرنا مليونيريّي وما معنا حقّ ربطة خبز".
ثائر على وضع اجتماعيّ لا حبّ فيه "بلا ولا شي"، على مظاهر خدّاعة وقِيم مطمورة، على حالة بائسة اجتماعيًّا وتربويًّا وسياسيًّا وثقافيًّا... "شي فاشل"!
وفي خضمّ ثورتي "تلفن عيّاش"، فتبادلنا بعض الأحاديث التي هدّأت من فورة غضبي. وها أنا أعود لأتابع رسالتي: "مش سِئلان شو صاير عندكم: بتمرق عليّ إمرق... ما بتمرق ما تمرق/ بتشفق عليّ إشفق... ما بتشفق ما تشفق/ بتعلق معاي إعلق... ما بتعلق آه"...
آه صديقتي كم يؤلمني وضع بلدنا التّعبان... أدرتُ ظهري للأرض وتابعت سيري التّصاعديّ، مُسرِع الخطى متأمّلًا. وما إن وصلتُ إلى الفوق حتّى سمعتُ موسيقى "عودك رنّان". دخلت على إيقاعها لأجد والدي عاصي وأختي ليال، وعمّي منصور، وعمّي الياس، مجتمعين فرحين ينتظرون وصولي. فوجئت بسعادتهم... فقالوا لي إنّهم "فلّوا تا يرتاحوا". وأبلغوني أنّني حتمًا سأرتاح معهم بعيدًا من تناحر أبناء الأرض وأقنعتهم وطمعهم... صحيح أنّكِ كتبتِ في رسالتِك التي وصلتني البارحة: "ما تفلّ" وكرّرتِها، أنتِ أيضًا، 28 مرّة، كما فعلتُ في أغنيتي "ما تفلّ"، لكنّني رحلتُ إلى عالم سلام حيث لا عودة، ولو قُدِّرَت لي العودة فلن أعود.
قولي لأمّي "اللي بتِعتَل همّي: بحبِّك"، ولأختي وأخي: "أنا رح ضلّ واقف معكن".
قولي للرّحابنة: "تابعوا المسيرة، كلّ وفق رؤيته، لأنّ الحياة في تطوّر؛ لكن حافظوا على الأصول، فنحن قد تخرّجنا من مدرسة أعطت العالم، بها نفخر، وبنا تفخر".
قولي لأحبّائي: إذا اشتقتم إليّ "إنتو احكوني وأنا بسمعكن/ حتّى لولا الصّوت بعيد".
أمّا أنتِ... "ملّا إنتي"، وكلّ مَن يعبث بقلبه عفريت الشّوق، فأقول لكم: "هيك الدّني، دايمًا بالآخر، في آخر، في وقت فراق".
إلى أن نلتقي، زياد