ثقافة 11-09-2025 | 08:07

بورتريه سينمائي لإيتيل عدنان: آفاق الفلسفة الملوّنة والحكمة الداخلية

إيتيل عدنان حارسة الكينونة والدهشة؛ في ألوانها الحلم، وفي كلماتها وجع الأرض وتمزّقها.
بورتريه سينمائي لإيتيل عدنان: آفاق الفلسفة الملوّنة والحكمة الداخلية
إيتيل عدنان. (أرشيفية)
Smaller Bigger

مخطئ من ظنّ أنّ إيتيل عدنان مجرّد شاعرة ورسّامة؛ إنّها فسحة من الضوء بين ثلاث لغات وعالمين. وفي فيلم "عدنان: الكينونة والزمن" للأميركية ماري فالنتين ريغان، الذي شاهدناه مساء الثلاثاء في سينما "متروبوليس" البيروتية ضمن مهرجان شاشات الواقع، بدت كائناً مرهفاً ينطق بصوت الحكمة الداخلية. عظيمة حدّ التواضع؛ تلك العظمة التي يبلغها المرء حين يتفادى الغرق في التبجيل.

أنجزت ماري ريغان بورتريه تعبيري عن إيتيل عدنان (مواليد بيروت، 1925)، صُوِّر مع الشاعرة والفنانة التي تفضّل تسمية "العربية - الأميركية" خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياتها. الكاميرا تصوّر ببساطة، ولا تسعى وراء البهرجة ونحو الإبهار؛ تدخل عالم إيتيل بصمتٍ وتغادره بعبرة. نراها تعمل ببساطة، أنفاسها منضبطة، إيقاعها يحاكي ضربات الفرشاة. في قدميها خفّ أحمر، ووجهها مبتسم دوماً، وفي صوتها أسئلة ملحّة: ما معنى أن نكون أحياء؟ أن نعبر الكارثة؟ أن نختبر الزمن؟ تقول المخرجة إنّ "الفيلم يقترب من عدنان في تفاصيل حياتها اليومية، في مرسمها، في أعمالها، وفي الطبيعة التي شكّلت جوهر رؤيتها الجمالية والفلسفية، ليقدّم من خلال شكله الفني تجربة تكشف عن نوعية انتباهها الراديكالية والفريدة".

 

ملصق الفيلم. (سينما متروبوليس)
ملصق الفيلم. (سينما متروبوليس)

 

البعيد عن عالم إيتيل وفلسفتها يكتشف، من خلال الوثائقي البسيط بتقنيّاته والضخم بأسئلته، وجه فنّانة راديكالية الانتباه، على قدٍ عالٍ من الوعي الكوني، حارسة الكينونة والدهشة، التي لا تزال تفرح بالنقد الإيجابي وتهلّل كما الأطفال، تفرح بقطعة "المافين"، وتكاد تبدو غير مصدقة بينما تقرأ مقالاً بعنوان: "إيتيل عدنان قد تكون أعظم مَن يتقن فنّ اللون في العالم اليوم".

نراها سعيدة، ضاحكة، وما أجمل من رؤية ضحكة إيتيل! خلال 70 دقيقة، ترافقها الكاميرا بين فرنسا والولايات المتحدة، مروراً بمحطات قصيرة في ألمانيا، إيطاليا، وسويسرا. الأصدقاء التفّوا حولها، وأطفأوا شموع عيدها. وإيتيل تضحك وتطرح علينا أسئلتها الصعبة وتغمرنا بفلسفتها. ترجع إلى الوراء، إلى لقاء أندريه جيد في بيروت لمّا كانت شابّة، إلى والدها، الضابط العثماني الذي رأى عالمه يتداعى، والمتحمّس لتعليم ابنته، والأمّ اليونانية التي تشاطره زوال عالمها. تعود إلى مرحلة التعلّم في مدارس فرنسية في بيروت، كانت تسعى، برأي إيتيل، إلى تعليم لغة بديلة للّغة العربية، لا إضافية.

 

بلا عنوان، 2014. (مجموعة جان فرومون)
بلا عنوان، 2014. (مجموعة جان فرومون)

 

غادرت إيتيل بيروت إلى باريس لدراسة الفلسفة والجماليات في السوربون، ثم تابعت دراسات متقدّمة في الفلسفة في جامعة هارفرد وجامعة كاليفورنيا في بيركلي. وفي كاليفورنيا، إبّان حرب الجزائر من أجل الاستقلال، توقّفت عن الكتابة بالفرنسية، واتجهت إلى الإنكليزية لقصائدها المناهضة للحرب. هناك أيضاً بدأت الرسم، فأنجزت أعمالاً تجريدية بألوان زاهية، ورسومات بالحبر، ومنسوجات، وكتباً مطوية على شكل أكورديون (ليبوريللو).

في ألوانها الحلم، وفي كلماتها وجع الأرض وتمزّقها. الحرب تؤلمها وكلّ ما هو قبيح. عاشت كأنها عابرة بين الأفق والأرض، بين الفكرة والصورة. صوتها ظلّ متفرّداً: بسيطاً وعميقاً، صافياً ومشعّاً كالشمس التي ترسمها دائماً على حدود اللوحة. الحياة بالنسبة إليها تفكير، وكلّ ما في الأرض يفكّر ويستحّق التفكير. هي واحدة من تلك الأرواح التي لا تنطفئ، لأنها تآخت مع الحرّية، وجعلت من الفن والكتابة مكاناً لحرّيتها، وملاذاً للإنسان في مواجهة قسوة العالم.

 

“رحلة إلى جبل تامالبايس“، 2008. (معهد العالم العربي)
“رحلة إلى جبل تامالبايس“، 2008. (معهد العالم العربي)

 

نصوص إيتيل تغصّ بأطياف الذاكرة ومشاعر المنفى؛ مشبعة بالتاريخ الممزّق للمدن، وبأسئلة الفلسفة التي لا تنتهي؛ والفيلم مطعّم ببعضٍ من هذه النصوص. ينتهي السرد البصري بجملة تقول إنّ صديقتها سيمونّ فتّال نثرت رمادها فوق جبل تامالبايس في كاليفورنا الذي لطالما أحبّت، بناءً على وصيّتها. يرحل الكائن المرهف حتى أقصى حدود العظمة، الذي أصغى طويلاً للحياة، وسكنته تفاصيل العالم، فكان امتداداً لانحناءة جبل بعيد، انكسار ضوء على صفحة ماء، ارتعاشة نبتة في الريح. إيتيل عدنان، التي جعلت من كلماتها ألواناً، ومن ألوانها فلسفةً للوجود، تبتسم للمئات الذين حضروا ذاك المساء إلى "متروبوليس" فغصّت بهم الصالة الأولى واضطرّت الإدارة إلى فتح صالة ثانية بعد نصف ساعة على بدء العرض الأول، حبّاً بإيتيل.

 

إيتيل عدنان في نيويورك، 1979. (سيمونّ فتّال)
إيتيل عدنان في نيويورك، 1979. (سيمونّ فتّال)

 

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
اقتصاد وأعمال 9/29/2025 10:48:00 AM
في عام 1980، وصل الذهب إلى ذروته عند 850 دولارًا للأونصة، وسط تضخم جامح وأزمات جيوسياسية. وعند تعديل هذا السعر لمستويات اليوم، يعادل حوالي 3,670 دولارًا.
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟ 
النهار تتحقق 9/30/2025 9:34:00 AM
العماد رودولف هيكل ووفيق صفا جالسين معاً. صورة قيد التداول، وتبيّن "النّهار" حقيقتها.