ثقافة 04-09-2025 | 16:42

زياد يا ابن جيلي، نم قريراً، وصلت الرسالة

سخريتك يا زياد، هي حضور وكل الحضور للوعي الإنساني واللبناني القادر على قول كلمته وغير العابئ بالأخطاء وبأحكام البشر. 
زياد يا ابن جيلي، نم قريراً، وصلت الرسالة
زياد الرحباني.
Smaller Bigger

 

زياد يا ابن جيلي، ومرحلتي وهمي السياسي والوطني والفلسطيني وحتى الماركسي. زياد يا من رأيته مرارا في مطعم الوالد ابو ياسر يستمتع بالمسخن الفلسطيني، ويناقشه السياسة وأوضاع البلد الذي تمزقه الحرب الاهلية والقتل على الهوية. أحَبَك وأحبَبْته ونسجْت في مطعمه بعض من سيناريوهاتِك اللاذعة ل"بعدنا طيبين قول الله". كنا ننتظرك كما نشرة الأخبار، او حالة الطرقات في حينها لنعرف اين وكيف نسير مع صوت شريف الأخوي ل"سالكة وآمنة".  حالة عبثية عاشها جيلنا وكنت مرآتها.

و"بعدنا طيبين قول الله"... يحاكينا ويرسم ذاكرة الحرب والوضع المعيشي والسياسي، والاستغلال والرأسمالية والطائفية وكل العناوين للحرب العبثية كانت تتحول مع برنامجك الإذاعي إلى فشة خلق لمدة نصف ساعة، تمدنا جميعا بالحياة. كنا ننتظرها كبارا وصغارا بشغف وكأنها بلسم روحنا المتعبة.  لم تترك قضية صغيرة او كبيرة لتلك الحرب والقتل على الهوية إلا وخبزتها في آتون فكرك الحاد، الهازل، والقريب من الروح.  

كنت مرآة جيلنا التي تعكس رفضنا. أحببنا هذا النقد البسيط واللاذع كأنه بديلا لصوتنا المختنق وسط عبثية الحرب التي انفجرت لتمزقنا واجسادنا الطرية. كنا، كما انت نتساوى عند اللقاء بكوننا احياءً. احياءٌ، بمعنى اننا لم نقتل بانفجار قنبلة مفخخة في احدى الأفران، او امام ازدحامات تعبئة المياه او شراء الخضار. كنا نتساوى عندما نلتقي لأننا لم نخطف على حاجز ثابت او آخر طيّار... 

و"الحواجز الطيارة" …هذا الابداع الذي بدأناه في مطلع السبعينات اثناء المظاهرات الطلابية، حيث كنا نظهر فجأة وسط شارع مزدحم، أو تقاطع طرق كبير، نصرخ للحرية على صوت فيروز "يا حرية يا زهرة نارية، يا طفلة وحشية … يا حرية" … وتلتم القوى الأمنية من حولنا لتضرب وتعتقل، ونهرب نحن في كافة الاتجاهات او نفتعل كوننا غير طلاب. فالطالب كان شبهة. نرمي الكتب في المحلات وعند من يرضى من الباعة ان يحفظها، على وعد ان نستردها فيما بعد. (أو) كنا نفترش المقاهي او المحلات كأننا "الشرايين" ولسنا المتظاهرين.  لم تكن لدينا هواتف نقالة او سبل اتصال. لكن إبداعنا كان وسيلتنا في التواصل فيما بيننا والاتفاق على الزمان والمكان الجديدين للتظاهر.بشكل طيّار.

كنا، وكيف كان لنا أن ندرك أن هذا الإبداع الشبابي والجمعي للمظاهرات الطلابية الطيّارة سيتغير بعدما منعت المظاهرات السيارة وكافة المظاهرات الطلابية العادية.  لذلك جابهنا قوى الأمن في حينه بأبداع المظاهرات الطيارة.  ولم نكن لندري ان السحر سينقلب على ساحره، والمظاهرات الطيارة البريئة والمرحة كلعبة "العسكر حرامي" ستتحول إلى حواجز طيارة لتزرع الرعب في القلوب الصغيرة والكبيرة.  ويتحول الابداع من براءة التظاهر الطلابي لكراهية القتل على الهوية. وأصبحت الحواجز الطيّارة تفاجئ الآمن للطريق او لأي مسار يختاره بين منطقة وأخرى او شارع وآخر. ومن المظاهرات الطيارة (البريئة) إلى الحواجز الطيارة(القاتلة) كيف تحولنا؟ كيف تحول جيل بأكمله؟ وكيف تحول وطن حالم، آمن، ومحب للحرية ولشعوب العالم وقضاياها وحرياتها لبؤرة قتل ودمار وكراهية؟ هل كنا مخدرين؟ أم أننا وقعنا ضحية المؤامرات والتحليلات والسياسات التي لا تعرف سوى لغة واحدة كنا نجهل اهم مفرداتها: المصالح والقوة. 

 

زياد الرحباني.
زياد الرحباني.

 

زياد.. رغم كلنا التائه، كنت حاضرا في وعينا الجمعي. ترصد التحركات لتبدعها ايقاعا يلعب على خشبة من الوعي والناس. آمنت كما آمنا في مرحلة ما بأممية العالم وسعادة الإنسان الفرد والمحروم "والمعتر" والمظلوم.  دمك كما دمنا، لم يكن مشبعا بالحمرة فقط، بل لونته فلسطين وجدانا أزليا. كنت كما نحن تنهض للحركات المطلبية، لفقراء الأرض ومعذبينها. وربما لا كنت، ولا كنا  ندري أن هذه النهضة ستتحول إلى فخ نسقط في شباكه.  وجرفنا التحول
بومضة عين. من السبعينات إلى منتصفها، ومن مظاهرات الطلبة في بيروت، لمطالب الصيادين في صيدا: قتل معروف سعد ( ابن صيدا البار) اثناء مظاهرة الصيادين برصاصة من يعرف أن قتله هو فتنة مجتمعية. قتل سعد، لتشتعل الفتنة الطائفية ولتلتحق به مجزرة البوسطة للفلسطينيين القادمين من احتفال في مخيم تل الزعتر إلى مخيماتهم في صبرا وشاتيلا.  ولم يمض كثير حتى بدأت التصفيات على الهويات والتنظيف العرقي.  أخ وثم أخ... من هذه الهوية، وتلك الهويات، كيف اصبحت قاتلة؟

 "الهويات القاتلة".. أبدع ابن جيلنا أمين معلوف في رسم تضاريسها، وفي تفكيك روح الهويات القادرة على الدمار بحجم قدرتها على البنيان. 

ومع تعدد الهويات، والانتماءات والسياسات والطوائف والاحزاب وطنية كانت، إقليمية أو عالمية لم يكن أحد ليدري كيف انقلب الجار على جاره، والأخ على أخيه. هذه اللعبة القديمة الجديدة؛ تزرعها المصالح الكبرى وتحصدها الاجساد الصغرى بأيدي الأسلحة المأجورة والتجار بأرواح الآخرين.  

وهكذا بدأنا رويدا رويدا لا ندري كيف نتحول ويكبر الوحش في دواخلنا على أنغام سياسات المنطقة ونزاعات سياسييها وفي مطلعهم الهَمُ والبلاء الإسرائيلي الذي زُرع في خاصرة لبنان، وهُجِّر في تبعات مجازره الكثير من الفلسطينيين إلى لبنان، الارض اللصيقة بالتراب الفلسطيني. لم يكن التراب يعرف الهوية. أهل وناس الجوار تعايشوا إلا مع التقسيمات ورسم الخرائط وصناعة الهويات عبر هويات وسياسات دولية عصرت فينا ولم تنته حتى مع الفيلم الأميركي الطويل" الذي نسجه إبداعك امام اعيننا ولا نزال نتطلع هل ينتهي؟ ام يبدأ بفصل جديد؟

تلك اللعبة الأشبه بمسرحيتك عن العصفورية، سكنت ذاكرتنا الجمعية المشوهة. غدونا غير قادرين على الفهم والتمييز بين الوقائع والمؤامرات. والإبداع اللبناني الذي بدأ يتفجر اثناء المظاهرات الطلابية، ويرسم نموذجا للوطن العربي الثائر ولكل حركات التحرر في العالم، تحوّل إلى مصدر للنزاعات بدل الحريات.  وككل مرحلة، استطعت ان ترصد تحولنا وتخرجه مسلسلا جديدا لمستشفى للمجانين و"الفيلم الأميركي الطويل". 

هذا الفيلم الممل، الذي لا ينتهي ليبدأ من جديد كأن اليوم أمس، أو الغد البارحة؟ فذاكرة جيلنا في مرآتك يا زياد ساخرة رغم كل العشق للحياة. 

كنت فريدا فيما حملته جيناتك من عبقرية الحس الفني، والوعي الفكري، والموقف السياسي. ولكونك ابن عمالقة أعطوا لبنان حضورا ( في العالم العربي والعالم اجمع) ما بعده حضور.  فأنت ايضا، كما أمّك الحزينة، وأباك وأعمامك الغائبين، انت ايضا مختلف وتصنع للاختلاف بريقا. 

بقدر ما انت مختلف، بقدر ما انت مرآتنا. نرى فيها ما نحبه وما نسخر منه، وما نمقته. جعلتنا نحلم ونتأمل ونفكر معك.  أذكر في يوم من أيام مطلع السبعينات، أجريت فيه لقاءً صحفيا مع عازف البيانو الشهير في حينه: وليد حوراني، والذي امتدحك كأحد كبار المؤلفين الموسيقيين وقال لي يومها، كم آمل أن يسافر زياد خارج لبنان ليتابع مسيرته الموسيقية.  إنه عظيم جدا ولا يولد الكثيرون في العالم العربي مثله.  إنه قادر على أخذ الموسيقى العربية إلى العالمية من خلال تأليفه.  

كنت شخصيا أتمنى ذلك لك يا زياد، رغم انني كنت اعرف جيدا مدى التزامك السياسي وسعيك للمساهمة في التغيير حيث انت. ربما كانت تلك الخلطة بين السياسة وقضية فلسطين والقضايا الإنسانية والاممية في حينها، وهذا الغضب الذي حملته وحملناه جميعا كجيل آمَنَ في التغيير وعمل عليه باندفاع يصل حد الجنون او حد طحن الذات أحيانا.  وانت أجدت طحن ذاتك حتى الرمق الاخير. ومن كان مثلك يجمع بين السياسة والوعي والعبقرية الفنية والروح الحساسة حتى الثمالة والجموح كحد السيف لم يكن بإمكانه المساومة أو اختيار الحلول السهلة أو ربما اختيار الانتصار للذات.

وإن كان الإنسان نفسه لا يفهم ذاته أحيانا، فكيف لنا بفهم ما يدور في رأس من مثلك: مبدع، نشأ وسط أسرة مبدعة طحنتها حالة الابداع على حساب حالة السعادة.  

لذلك كنا نرى "الأم الحزينة" غير قادرة على ذرف الدمع، والإبنة ريما تتأبط يدها، وكلاهما غير قادر على ذرف الدمع الموجع، لأنهما يسمعا صوت سخريتك من الحياة في خلفية الوجع. 

سخريتك يا زياد، هي حضور وكل الحضور للوعي الإنساني واللبناني القادر على قول كلمته وغير العابئ بالأخطاء وبأحكام البشر. 
نم قريرا، وصلت الرسالة. 

 

*ابنة ابو ياسر

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟