البندقية 82 - غييرمو دل تورو يضعنا أمام الوحوش لنرى أنفسنا

يصعب الحديث عن المخرج المكسيكي غييرمو دل تورو من دون تناول الوحوش. فهي ليست مجرد شخصيات في أفلامه، بل قلبها النابض وديانته البديلة. منذ طفولته المعذّبة، وجد هذا المخرج المكسيكي في الوحوش عزاءً، وفي وجوهها الممسوخة صدقاً لم يجده في الوجوه البشرية. بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تخيفه بتماثيلها، كان فرانكنشتاين يقدّم له مفهوما آخر للتضحية، "أصدق من المسيح المصلوب نفسه"، كما يقول. الثالوث الأقدس في حياته لم يكن "الأب والابن والروح القدس"، بل: ”فرانكنشتاين، كائن اللاغون الأسود والرجل الذئب". هذا لا يمنع انه سقط سقوطاً مدوياً في امتحان أفلمة "فرانكنشتاين"، في نظر كثر من النقّاد ومن بينهم كاتب هذه السطور. شاهدنا الفيلم قبل أيام ضمن مسابقة الدورة الحالية من مهرجان البندقية السينمائي (27 آب/أغسطس - 6 أيلول/سبتمبر).
في صغره، حين خاف من وحش تلفزيوني أصلع بعينين واسعتين، لم يهرب… بل وقع في غرامه. أصيب، كما يعترف، بـ"متلازمة ستوكهولم" تجاه الوحوش. عقد معها صفقة ليلية: "دعوني أذهب إلى الحمّام، وسأكون صديقكم إلى الأبد". منذ ذلك الحين، أصبح عاشقاً أبدياً للمخلوقات التي "لا تكذّب"، على حدّ تعبيره، والتي "لا تدّعي الطهارة أو الفضيلة". الوحوش عند دل تورو ليست رموز رعب، هي كيانات نقية، شفّافة، تقول حقيقتها كما هي، بعكس البشر الذين من المفترض أن "يحموك، لكنهم يؤذونك".
من بيته الأول، بيت جدته، المليء بالممرات الطويلة والطقوس الدينية، إلى مكتبته التي تحتوي على آلاف الكتب وموسوعات الفنّ والتشريح والبيولوجيا، صاغ دل تورو خيالاً لا يشبه أي خيال. يروي أنه حفظ موسوعات الفنّ "من الجلدة للجلدة"، وكان يتوهّم إصابته بجميع أمراض البشر من كثرة قراءته للمراجع الطبية. هذه الطفولة الغنية بالمعرفة والهلوسة، صنعت عالمه السينمائي الفريد، تنبض فيه الوحوش بروح شعرية وفلسفية، وتتحوّل فيه المخلوقات الهجينة إلى استعارات مؤثّرة للإنسان نفسه، بجراحه ونقصه ووحدته.
في السينما، كما يراها دل تورو، لا تخلق الميثولوجيا من الإنسان الخارق أو البطل الوسيم، إنما من الكائن الغريب، الهجين، المنبوذ. الوحش، في نظره، لا ينهار تحت الزمن. يبقى حياً في المخيلة، كما بقيت صورة بوريس كارلوف على الحائط، التي هزّت كيانه كما يهتز القديس بولس على طريق دمشق. يرى أن السينما الجيدة ليست فقط ما يشبهنا، إنما ما يجعلنا نحبّ ما نخافه. وهكذا استطاع أن يجعل من كائن بحري في "شكل المياه" حبيباً، ومن شيطان أحمر قريناً طيباً في "هلبوي". يروي انه ضحّى بمرتّبه في "شكل المياه" ("الأسد الذهب" لعام 2017)، كي ينجز الوحش كما تخيله، وبقي لثلاث سنوات يطوّره قطعة قطعة، حتى صار أقرب إلى قديسه الشخصي منه إلى كائن بصري.
لا يبالغ حين يصف أفلامه بأنها "نصوص إنجيلية حافلة بالوحوش". إذ يجد فيها خلاصاً شخصياً، ويمنحها مهمّة شبه مقدّسة: الكشف عن جانبها الطيب في مقابل الكشف عن الجانب الوحشي للإنسان. السينما عنده ليست لهواً بصرياً، بقدر ما هي شكل من أشكال التفسير الوجودي للعالم. وهنا تكمن خصوصيته. يصف أفلامه بأنها "حكايات تعيد ترتيب علاقتنا بالخوف، وتعلّمنا كيف نحبّ ما يثير فزعنا". لا يصفها بـ"أفلام الرعب".
غييرمو دل تورو يضعنا أمام الوحوش ليرينا أنفسنا. لا يرى فيها تشوّهاً بقدر ما يلمس نقاءها، معتبراً ان أنياب المستذئب أقل قسوةً من أكاذيب الواعظ.