بسُفنٍ وأسفار مجلدة عن تاريخ المملكة العربية السعودية، يمخر محمد بن عبد الله السيف عباب التاريخ المعاصر بتدوين سير عطرة في: الإدارة والوزارة، التعليم، الديبلوماسية، النفط والفكر والإعلام.. مشهراً "سيف الإنصاف" لمن ارتبطوا عملياً ووجدانياً بالسعودية؛ فَيعي التاريخ في صدره ويضيف أعماراً إلى عمره، عمن كتب "سيرتهم" من الطفولة حتى الكهولة.

بخبرة صحافية واستقصائية شغوفة ينقّب محمد السيف في الصخور، يسبح في الرمال، يقتلع الأشواك لكي يغدق على المكتبة العربية ويملأ رفوفها بحيوات وآثار من كتبَ عنهم ونوّه بهم موثقاً جهودهم الجبارة أثناء أدوار وأطوار دول، معارك عسكرية وسياسية، سجالات صحافية وأدبية، مطارحات عنيفة وردود ملتهبة بـ"ضربة مرفق".

آخر من قطع السيف محمد، بقلمه النبيل، الستارَ المسدل على مطارحاته ومعاركه هو السفير جميل البارودي مندوب السعودية الدائم (والقديم) لدى الأمم المتحدة. طوّر اهتمامه بهذه الشخصية اللبنانية الفذة، من مادة بروفايل نشرتها "المجلة العربية" التي يرأس تحريرها، إلى أول كتاب "يفيه شيئاً مما يستحقه" عنوانه "جميل البارودي سيد الأمم المتحدة" إصدار "جداول للنشر والترجمة والتوزيع" 2025م.

تتبع جذور جميل البارودي مذ ولد 1905م في "سوق الغرب" وتطرق لمشاهير أسرته، ومدارسه وعيشه في كنف والده ببيروت حيث التحق بالجامعة الأميركية، ونتاج موهبته الشعرية، وتوجهه نحو لندن يمتهن التجارة مع التعمق بدراسة قضايا الشرق الأوسط قبل انتقاله إلى أميركا يساعد صهره شارل قرم (زوج أخته سامية البارودي ملكة جمال سوريا ولبنان) بتنظيم وإدارة جناح لبنان - إكسبو نيوريوك 1939م حيث "تم إبراز ستة آلاف سنة من العبقرية السلمية في خدمة الإنسان".

اندلعت الحرب العالمية الثانية فحيل دون مغادرة البارودي جميل لنيويورك.. منحته إدارة المدينة صفة "مواطن شرف"؛ على يدي المواطن الجديد درس الضباط الأميركيون اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط بجامعة بريستون التي عمل فيها أستاذاً.

غلاف الكتاب.

ماذا حدث للبارودي هناك أيضاً؟ هل تعرّف إلى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن عبد العزيز (الملك مستقبلاً)؟ وكيف أصبح مندوباً للسعودية في الأمم المتحدة بقية حياته، فمشرفاً صارماً على أولاد فيصل: خالد، سعود وتركي بأميركا؟

أول لقاء لهما شهدته لندن 1939م وتأسست صداقتهما، ثم تجددت وسط نيويورك 1943م، ووطدها إلحاقه بالوفد السعودي إلى "مؤتمر سان فرنسيسكو" لتأسيس الأمم المتحدة 1945م؛ كلفه الفيصل بتأسيس المكتب السعودي في نيويورك لكن اللبناني المُكلف اشترط انتهاء مهمته بعدها. بيد أن همته العالية الفطرية رجحت قرار السعودية باستمراره بالبعثة من 1945م حتى غدا رئيسها 1963 إلى وفاته 1979م.

تعيين السعودية (الدولة المسلمة) لجميل البارودي (اللبناني المسيحي) ضمن بعثتها لدى الأمم المتحدة أثار العجب والإعجاب في الوقت عينه؛ العجب من الاختلاف الديني، والإعجاب بمدى سعة الأفق السعودي واستعانته بكفاية قومية وشمول ثقافي تؤهلانه لهذه المَهمة المُهمة.

طوال مهمته، ظل البارودي يشرح: "وضع الدول الصغرى أمام الدول الكبرى"، "عدم تأثير الإدانات المتكررة"، و"الأزمات لا تحل بمجرد اتخاذ قرارات"، ويلحقها بعبارة "البارودي يخبركم بالحقيقة"؛ أخيراً جاء محمد السيف يخبرنا عن أخباره وأسراره في كتاب يغطي نشاطه بأكثر من وثيقة ومرجع، ويبرز قدراته ومدى وفائه لبلدٍ قدّر مواهبه فسخّر إمكاناته للتعبير عنه. كذلك يرصد شظايا "الانفجارات البارودية" في وجه الصهيونية متى ينبري بمجلس الأمن أو الجمعية العمومية، مرافعاً جاداً وساخراً حاداً ضد مندوبي إسرائيل الذين يرتعدون خوفاً من لسانه؛ ناهيك عن تقدير انتقاداته ممن ينظرون إليه "كأب للأمم المتحدة" آلمهم رحيله.