"جرح على جبين الرحّالة ليوناردو" لثائر الناشف... الجراح كهوية في المنفى

ثقافة 19-09-2025 | 08:22

"جرح على جبين الرحّالة ليوناردو" لثائر الناشف... الجراح كهوية في المنفى

الجرح ليس عبئاً يُمحى، بل هو الشاهد الوحيد على حقيقتنا حين يخذلنا العالم.
"جرح على جبين الرحّالة ليوناردو" لثائر الناشف... الجراح كهوية في المنفى
غلاف الرواية.
Smaller Bigger

منذ الصفحات الأولى لرواية الكاتب السوري المقيم في النمسا ثائر الناشف "جرح على جبين الرحّالة ليوناردو"، يتبدّى الجرح لا كأثر جسدي عابر، بل ككائن وجودي ينهض من بين السطور ليلازم الإنسان ويعيد تشكيل هويته في المنفى والذاكرة. فالجرح هنا ليس علامة ماض منسي، بل حضورٌ فاعل يتحوّل إلى مرآة تكشف الذات وتعيد صياغة علاقتها بالعالم. إنّه الجرح الذي يتكلم، يناقش صاحبه، ويقوده في دهاليز الحياة والذاكرة، كأنه مرآة تنعكس عليها هشاشة المنفى وعطب الوجود.

الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون العام الفائت، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا،  تبدو للوهلة الأولى سيرة مهاجر، لكنّها في العمق وثيقة وجدانية عن معنى الغربة. إنّها ليست حكاية "عيسى الروماني" وحده، بل حكاية كل من وجد نفسه مطروداً من دفء المكان، يحاول أن يضمد جراحه في بلاد لا تشبهه، فيكتشف أنّ الغربة لا تمحو الماضي بل تضعه تحت ضوء أقسى.

في هذه الصفحات، يستدعي الناشف الرحّالة الإيطالي "ليوناردو" بوصفه صورة تاريخية وقرينة ميتافيزيقية لعيسى. يلتقي الجرحان: جرح الزمن البعيد وجرح المهاجر العربي، ويتحوّل الحوار بينهما إلى مساحة تأملية فلسفية، حيث يصبح الجرح بوصلة وجودية تسائل القارئ: هل نحن نصنع جراحنا أم أنّها التي تبحث عنّا منذ الأزل؟

ولا يمكن إغفال دلالة الاسم الذي يحمله البطل: عيسى الروماني. فالإسم ليس اعتباطياً، بل يضع الشخصية في تقاطع روحي وتاريخي، بين الشرق المشرقي الذي حمل رسالة المسيح، والغرب الذي ورث الكنائس وحوّلها إلى فضاء للذاكرة والرمز. في أحد أكثر مشاهد الرواية كثافة، يرى عيسى النور والظلال داخل كنيسة مهجورة، فيدرك أن الجرح الذي يحمله ليس سوى انعكاس لذلك التوتر بين الضوء والظلام. النور هنا ليس خلاصاً كاملاً، والظلال ليست موتاً نهائياً، بل كلاهما مساران يتقاطعان فوق جبين اللاجئ الممزق بين ماضٍ مثخن بالجراح وحاضر يبحث عن معنى. هكذا يتحوّل الجرح إلى صليب شخصي يحمله عيسى، كأنه يشارك المسيح آلامه لا من باب اللاهوت بل من باب التجربة الإنسانية المحضة، حيث الغربة جرح أبدي، والكنيسة مرآة لهذا الوجع المتوارث.

 

ثائر الناشف يناقش روايته في إيسن الألمانية (فيسبوك)
ثائر الناشف يناقش روايته في إيسن الألمانية (فيسبوك)

 

ومن أعمق اللحظات في الرواية تلك العبارة التي يقرؤها عيسى في المخطوطة: "إن كنت صاحب جرح فاحتفظ به، لأنه قد يأتي وقت لا تجد فيه من يشعر بك سواه". هنا يرفع ثائر الناشف الجرح من مستوى الألم العرضي إلى مرتبة الهوية نفسها. فالجرح ليس عبئاً يُمحى، بل هو الشاهد الوحيد على حقيقتنا حين يخذلنا العالم. في هذه الجملة يتجسد وعي المنفى: إذ يجد الإنسان نفسه وحيداً، لا يملك من رفقة سوى جرحه الذي يذكره بوجوده. إنها حكمة مرة، تُشبه مرآة مكسورة يرى فيها القارئ صورته، وتذكّرنا أن ما نحاول الهرب منه قد يكون في النهاية الشيء الوحيد الذي يمنحنا معنى الاستمرار.

وفي مستوى آخر من الرمزية، يقدّم الناشف مشهد القبو الكنسي كفضاء وجودي كثيف الدلالة: "باب القبو في الكنيسة شاهد قبري في الحياة، والدهاليز المعتمة مثواي الأخير". هنا يتجسّد المنفى لا كرحلة عابرة بل كقبر مفتوح، وكأن اللاجئ يعيش موته البطيء بين جدران الغربة. الباب، بحد ذاته، ليس مدخلاً إلى الخلاص، بل إلى ظلال العزلة التي ترافق الروح حيثما ارتحلت. ومع ذلك، لا يترك الكاتب القارئ في العتمة الكاملة، فـ"الجرح" هو الذي يقود صاحبه في تلك الدهاليز نحو دروب الحياة، كأنه مصباح داخلي يتقد بالألم ليضيء للروح طريقها.

ما يميّز العمل هو هذا المزج بين الواقعية السحرية والفانتازيا الميتافيزيقية. فالأحداث لا تنحصر في توثيق اللجوء أو الغربة، بل تتجاوزها إلى لعبة مرايا بين الماضي والحاضر، الشرق والغرب، الجسد والروح. كأنّ الكاتب يقدّم نصًا موازيًا للاستشراق، يُدخل فيه المشرقيّ وعذابه في مواجهة الغرب وثقافته، لا بوصفه صراعاً سياسياً بل حواراً إنسانياً عميقاً.

ثائر الناشف لا يكتب الغربة كأرقام لجوء أو تقارير أممية، بل يكتبها كندبة على جبين كل من غادر قسراً. فالغربة، في الرواية، ليست جغرافيا فحسب، بل تجربة روحية تترك صاحبها عالقاً بين "الوطن الذي يريد نسيانه" و"المنفى الذي لا يمنحه الطمأنينة". وهنا تكمن المعضلة: هل ينجح اللاجئ في دفن آلامه في بلاد أخرى، أم أنّ جرحه يظلّ حيّاً، ينهض في كل مرآة وكل لغة وكل علاقة جديدة؟

الرواية تغترف من التاريخ لتقول إن الجرح قديم قِدم الحضارات، وإنّ الإنسان مهما ارتحل سيحمل معه أثره. في شخصية ليوناردو الإيطالي وعيسى السوري نرى هذا التوازي: كلاهما محكوم بجرح، وكلاهما يفتّش في الزمن عن هوية ضائعة. إنّه لقاء رمزي بين الشرق والغرب، حيث لا تنتصر ثقافة على أخرى، بل يلتقيان على أرضية الألم الإنساني المشترَك.

من الناحية الأسلوبية، يقدّم الناشف سردًا يوازن بين التأمل الفلسفي والمتعة الحكائية. اللغة هنا ليست زخرفاً، بل أداة لكشف "الجرح المتكلم". وهي لغة ذات نفس نوستالجي، تُحيل القارئ إلى ماضيه الخاص، إلى جراحه الشخصية، كأنّ كل قارئ مدعوّ ليجلس أمام جرحه ويصغي إليه.

"جرح على جبين الرحالة ليوناردو" نصّ يرافق القارئ كجرح صغير في ذاكرته. إنها محاولة لتطبيع الألم، لا عبر نسيانه، بل عبر الإصغاء إليه، والتصالح مع وجوده الأبدي. وهنا تكمن فرادة العمل: أنّه يحوّل الوجع إلى لغة، والندبة إلى بوصلة وجود.

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 11/20/2025 10:55:00 PM
الجديد في القرار أنه سيتيح للمستفيد من التعميم 158 الحصول على 800 دولار نقداً إضافة إلى 200 دولار عبر بطاقة الائتمان...
سياسة 11/20/2025 6:12:00 PM
الجيش اللبناني يوقف نوح زعيتر أحد أخطر تجّار المخدرات في لبنان
سياسة 11/22/2025 12:00:00 AM
نوّه عون بالدور المميّز الذي يقوم به الجيش المنتشر في الجنوب عموماً وفي قطاع جنوب الليطاني خصوصاً، محيّياً ذكرى العسكريين الشهداء الذين سقطوا منذ بدء تنفيذ الخطّة الأمنية والذين بلغ عددهم 12 شهيداً. 
مجتمع 11/21/2025 8:31:00 AM
تركيا وسواحل سوريا ولبنان وفلسطين ستكون من بين المناطق المستهدفة بالأمطار بعد إيطاليا