عراقة الفنون المتّصلة بالجنون عند ماري القصيفي

عراقة الفنون المتّصلة بالجنون عند ماري القصيفي
ماري القصيفي.
Smaller Bigger
لم تكترث ماري القصيفي للمعاني الضالّة بين حكمة مسجونة في عقول عقلاء، وفضاء جنون لامحدود في حياة مجانين عاقلين، بل سردت أخباراً عن عقّالٍ صارعوا طواحين القلق، من دون أن ينعتقوا من سحر جنونهم.

حار القلم في أمره، عندما استدعته القصيفيّة رسول وعيٍّ إلى عالم الجنون. وعادت به ربع قرن من الزمن. فقد نشرت منذ أيّام على إحدى صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ الخاصّة بها ستة مقالات، كانت قد كتبتها لملحق النهار عام 1999، من دون أن تعدّل في محتواها، لأنّ الجنون لم ولن يتغيّر، أو تتغيّر مفاعيله مهما طال الزمان.

عندما نقرأ، نجد أنّ الجنون لا يبدأ بأول مقال، وينتهي بالمقال السادس والأخير. لأنّ ماري القصيفي أضاءت على حالات من الجنون لها جذورها الضاربة قبل بداية الزمن الموضوعيّ لعلم النفس، وكأنّما هي امتدادٌ لامتدادٍ مستمر إلى ما بعد انقضاء الدهر. فالجنون لم يولد في تلك المقالات، بل خرج منها متأنّقاً بفنٍّ أدبيٍّ واصفاً ومعللاً تصرفات غريبة، فهو لم يتنهِ بنهاية آخر مقال بل أصبح نبذة عن عقلانيّة كاتبة، وجنون أشخاصٍ وأوطانٍ وطوائفَ ومجتمعات.  

من منكم لا يعرف مجنوناً، يخرج من ماضيه، ويمشي في أزقّة الذاكرة، يكنس كلّ الشوارع من السخرية والأسى. مجنون ينقش الحكمة على جذوع الأشجار، ويصدح بأغانٍ شردت عنّا، وينتظر كلّ غروب حين تهدأ الأصوات، كي يستعيد صوته من تهكّم الدروب؟ فقد ورد عن الساذج والمجنون في المقال الأوّل: "وباهتة القرية التي تخلو دروبها وأزقّتها من وجودهما، وقاحلة المدينة التي أسرتهما في مستشفياتها وأبعدتهما عن صورتها الملمّعة القابلة للتصدير والرافضة لكلّ ما لم يدخل في تصميمها المدروس." فلماذا يتقبّل المجتمع القرويّ المجانين أكثر من المجتمع في المدينة؟ -وهذا ليس تعميماً- هل لأنّ الأوّل غير محكوم ب"بريستيج" معيّن؟. 

أدرجت الكاتبة فقرة في المقال الثاني عن لسان سهيل الحمصي، ربط خلالها بين الشخصيّة والجنون والعراقة: "إنّ شخصيّة القرية لا تكتمل إلّا إذا عاش فيها مجنون عريق يكون له دور طريف في حياة القرية." أمّا ماري القصيفي، فقد جعلت الحبر يسطّر لنا ذات جنون قصصٍ عريقة، كأخبار أخوت شاناي، وروزينا في رواية "الإقلاع عكس الزمن" للأديبة إميلي نصرالله، والشخصيات الرحبانيّة التي مثّلت الجنون كمخّول وسبع...، واستعار الفرح من يراعتها ما يجمّل ضحكاتنا الحزينة، ويعيدنا إلى ذواتنا من غربتنا داخل وطننا.

وعن جنون بيروت في قصّة "أبو الريش" جاسوس العدو، التي وردت في المقال الرابع تقول ماري القصيفي: "وبيروت التي أرادوا لها أن تكون صورة لمدن أخرى ما عادت تشبه نفسها وما استطاعت أن تشبه سواها. بيروت هذه التي عرفت جنون الترف وثملت بجنون الشعر، ورقصت مجنونة بالحرّيّة، وذاقت جنون الحرب والقتل والمجازر، كانت أرصفتها مسرحاً لشتّى أنواع الهذيان، الصادق منه والمزيّف...". هنا تلتقي القصيفيّة مع استشراف غادة السمّان في رواية "بيروت 75" التي كتبتها عن بيروت المدينة المشحونة بالجنون قبل بدء الحرب بوقت قصير. وكانت هذه الرواية كرحلة إلى الجنون والموت والضياع. فبيروت التي وصفتها السمّان اشتهرت بالثقافة، والرقي، والقاع السحيق الذي وقعت فيه شخصيات الرواية  التي استهواها المال وجذبتها الشهرة، فأتوا إليها حالمين بالمجد، وطامحين إلى تحقيق أحلام ورديّة، وسرعان ما تحوّلت أحلامهم أوهاماً أودت بحياتهم وعقولهم. وكانت بيروت مدينة المفاهيم المقلوبة التي بدت فيها الأحياء أموات والأموات أحياء، والمجانين عقلاء والعقلاء مجانين. وها هو المجنون فرح أحد شخصيات الرواية الذي هرب من مصّح المجانين حاملاً لافتة "مستشفى المجانين" منتزعاًّ اللافتة التي كُتبت عليها كلمة بيروت بالخط العريض، مثبتاً مكانها اللافتة التي انتزعها عن مدخل المستشفى.  
عندما نصل بالقراءة إلى المقال الخامس، نقع على قصّة لكرم البستاني عن بساطة قلب، وطفولة بريئة لولد اسمه نعمان الذي دعى الطفل يسوع في الصورة، إلى تناول العشاء معه.  تحضرنا هنا قصّة من سيرة القدّيس أونوفريوس الذي أطعم خبزاً للطفل يسوع، وأعطاه يسوع رغيفاً كبيراً طاهراً تفوح منه رائحة المسك، عندما حجب عنه الرهبان الخبز. أوليس جميع المجانين يملكون قلوباً نقية!؟ والربّ يحبّ نقاء القلوب؛ لذلك كانت هذه المقالات "سنكساراً" للمجانين القدّيسين. 

أيّتها الكاتبة العقلانيّة، لماذا نخفي حقيقة ذواتنا؟ ألسنا الوجه الآخر البائس للمجانين، وجنوننا واضح مع وقف التنفيذ؟ فإذا تمعّنا في قول ميشيل فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي": "المجنون هو الذي فقد كلّ شيء إلّا عقله." نجدك المجنونة الأولى والأخيرة، فكم مرّة عدلتِ عن الكتابة والنشر؟ وها قد عدت إلى سابق نشاطك. نعود هنا إلى قول غادة السمّان: "لا إجازة لمجانين الكتابة".  

الأكثر قراءة

كتاب النهار 10/15/2025 4:35:00 PM
إن كانت المشكلة قائمة فعلاً، فليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وكان يجدر بالوزيرين المعنيين معاً، أن يبادرا إلى درس التداعيات قبل اتخاذ قرار مماثل يمكن وصفه بـ"العشوائي"...
لبنان 10/16/2025 9:40:00 PM
 أكثر من 13 غارة إسرائيلية استهدفت جنوبي لبنان مساء اليوم...
سياسة 10/15/2025 10:23:00 PM
 طارق متري يستنكر تسريب جوازات السفر الخاصة بالوفد السوري الذي زار لبنان أخيراً، واصفاً هذا التصرف بأنه غير مقبول.
سياسة 10/16/2025 12:22:00 PM
وزير الداخلية من برجا: ملتزمون بسط سلطة الدولة وإجراء الانتخابات في موعدها الدستوري