"بلاد آرتو" أطلق مهرجان لوكارنو: رحلة متعثرة في جراح أرمينيا

"بلاد آرتو" أطلق مهرجان لوكارنو: رحلة متعثرة في جراح أرمينيا
المخرجة تامارا ستيبانيان خلال عرض فيلمها ”بلاد آرتو“ في لوكارنو.
Smaller Bigger

لوكارنو - هوفيك حبشيان

في أولى تجاربها الروائية الطويلة، تقدّم المخرجة الأرمنية تامارا ستيبانيان، عملاً ينبثق من هاجس الهوية والحنين والمنفى، لكنه يعجز عن ترجمة هذا التوتّر العاطفي إلى لغة سينمائية فعّالة. فيلمها "بلاد آرتو"، الذي افتتح الدورة الـ78 لمهرجان لوكارنو السينمائي (6 - 16 آب)، ينطلق من سؤال وجودي شخصي، بيد ان رحلته البصرية تبقى متعثّرة، مشتّتة بين نيات صادقة وأدوات فنية غير مكتملة.

تقول ستيبانيان عن فيلمها: "إذا كان لي أن أصفه في بضع كلمات، لقلتُ إنه حكاية عن جراح أرمينيا، عن تلك الندوب التي ما زالت تنزف في الذاكرة. وزلزال عام 1988 في غيومري (ثانية كبرى المدن الأرمنية) هو أحد أعمق هذه الجراح. كنت حينها في السادسة، ومرت السنوات حاملةً في طياتها صوراً لا تُنسى. أذكر جيداً أولئك الأطفال اليتامى الذين التقيتهم في مسرح والدي، حيث كان يقيم نشاطات من أجلهم. تركت تلك اللقاءات أثراً لا يُمحى في داخلي، ونشأتُ وأنا أحمل تلك الذاكرة كجزء لا يتجزأ مني. وأعتقد أن نشأتي خارج أرمينيا منحتني منظوراً مختلفاً تجاه البلاد، وتجاه كيفية التعامل مع صدمة الحرب. لم أرغب في الانزلاق نحو خطاب قومي أو وطني ضيق. كنت أود أن أتكلّم كمخرجة، لا فقط كامرأة أرمنية".

ستيبانيان، 43 عاماً، المولودة في أرمينيا والموزّعة الهوى والاشتغال بين لبنان (عاشت ودرست فيه السينما) وفرنسا، تصنع من فيلمها انعكاساً لهوية ممزقة، تتأرجح بين انتماء مُلغز واغتراب قسري. تعترف بأن أرمينيا تسكنها كطيف، كعضو مبتور لا يزال يبعث بالألم. غير أن هذا الإحساس الحاد لا ينصهر في سرد حي أو تجربة بصرية متماسكة، فيبقى معلّقاً في فضاء تأملي غائم.

 

ملصق مهرجان لوكارنو السينمائي.
ملصق مهرجان لوكارنو السينمائي.

 

يأخذ الفيلم من فترة ما بعد اندلاع حرب ناغورنو كاراباخ الثانية (2021) مسرحاً للأحداث، حيث تصل سيدة فرنسية (كاميّ كوتان) لاستكمال معاملات قانونية بعد وفاة زوجها الأرمني. لكن الإجراء البيروقراطي يتحول سريعاً إلى كشف صادم: اسم الزوج مختلف في الوثائق الرسمية، ما يفتح الباب أمام شبح حياة أخرى عاشها الرجل، وربما هوية خفية شارك بها في حرب سابقة قبل أن يهاجر إلى فرنسا.
عبر هذا الاكتشاف، ستنجرف في متاهة من الأسئلة الشخصية والجماعية: مَن كان آرتو؟ وهل يمكن تغيير الاسم أن يغيّر مصيراً كاملاً؟ وما هي بلاده حيث تتقاطع أقدار الأحياء والأموات، وفيها تختلط الهويات بالتواريخ وتتقاطع السجلات مع ذاكرة الحرب والكوارث الطبيعية؟ 

رغم أن الفيلم يتناول موضوعاً تجاهلته السينما، مثل الصراع الأرمني الأذري، فالمقاربة تبقى واهية، عاجزة، قاصرة. من جهة، يُستعمَل الجهل السياسي للفرنسية التي تريد "أن ترى" أهوال الحرب (على نسق إيمانويل ريفا في "هيروشيما، حبّي")، كأداة درامية للتعريف بالسياق، ومن جهة أخرى، يفقد الفيلم فرصته في تعميق الطرح أو الخروج عن دائرة تفسير الأحداث وقولها، بدلاً من تجسيدها، والفرق كبير بين الاتجاهين.

بطلة الفيلم، وهي في الظاهر مجرد سيدة تبحث عن ورقة رسمية، تتحوّل تدريجاً إلى رمز خارجي يتفاعل مع الداخل الأرمني المعقّد. غير أن هذا التحوّل يبقى شكلياً وغير مقنع. لا تنغمس الشخصية فعلاً في ما تكتشفه، بل تمضي في رحلتها كمن يراقب من خلف زجاج، بانفعال خافت أقرب إلى الذهول المستمر منه إلى التورّط العاطفي. المفارقة أن هذا الأداء المقتصد، رغم كلّ شيء، أكثر إقناعاً من أداء الشخصيات التي تتحلّق حولها، والتي تبقى على درجة واحدة من الثبات الانفعالي، قبل ان تصل بها الحال في بعض المشاهد إلى الوعظ. الحوارات تنزلق إلى نبرة خطابية، كأنها مشاهد مكتوبة لإيصال فكرة أكثر منها لبناء علاقة أو إيصال شعور حقيقي.

رغم محاولات الإيحاء بالشجن والقلق من خلال الموسيقى ومشاهد التنقّل في الطبيعة، فالفيلم لا يُنتج شعوراً متماسكاً أو مناخاً داخلياً يشد المتفرّج إلى قلب التجربة. اللقطات المأخوذة من السيارة، أو تلك الجوية، وغيرها من الوسائط التعبيرية، تبقى مجرد صور جميلة لا تتّصل بعمق المعاناة التي يريد الفيلم نقلها. لا "تآخي" بين المَشاهد، على سبيل استخدام تعبير شهير لبريسون.

ينقص الفيلم عنف الضرورة الذي كان أرتقى بالطرح الذي تقدّمه المخرجة. ثم، هناك أفكار تُطرَح ولا تُستكمَل، مَشاهد تُفتَح ولا تُغلَق، أشياء تظهر وتختفي بلا مسوغ واضح. تسلسل السرد يتعثّر، والإيقاع يفقد تماسكه لقطة بعد لقطة، ما يُفضي إلى تجربة متقطّعة، لا تحمل المشاهد في تجربة انغماسية، ولا تمنحه اللحظة التي تستحق التوقّف عندها. كان في ودي ان أشير إلى السيناريو كمشكلة أساسية، لكن أعتقد ان ما يعاني منه الفيلم أبعد من ذلك بكثير.

ينبع "بلاد آرتو" من معاناة شخصية، ومن علاقة متوتّرة مع بلاد تلاحق ذاكرة مخرجته كظلّ. لكن هذا الصدق، على أهميته، لا يضمن قفزة جمالية. فالتعبير الوجداني، إن لم يُدعَم بأدوات فنية متينة، يبقى معلّقاً، ولا يتحوّل إلى تجربة معيشة قادرة على التأثير.

 

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 11/22/2025 12:24:00 PM
حرّر محضر بالواقعة وتولّت النيابة العامة التحقيق.
اقتصاد وأعمال 11/20/2025 10:55:00 PM
الجديد في القرار أنه سيتيح للمستفيد من التعميم 158 الحصول على 800 دولار نقداً إضافة إلى 200 دولار عبر بطاقة الائتمان...
سياسة 11/20/2025 6:12:00 PM
الجيش اللبناني يوقف نوح زعيتر أحد أخطر تجّار المخدرات في لبنان
سياسة 11/22/2025 12:00:00 AM
نوّه عون بالدور المميّز الذي يقوم به الجيش المنتشر في الجنوب عموماً وفي قطاع جنوب الليطاني خصوصاً، محيّياً ذكرى العسكريين الشهداء الذين سقطوا منذ بدء تنفيذ الخطّة الأمنية والذين بلغ عددهم 12 شهيداً.