إدغار موران راسخٌ في الألفية الثالثة بعد قرن من الفكر

انتقل إدغار موران في الثامن من تموز/يوليو إلى العام الرابع بعد المئة، كأنّه على عتبة عمر جديد، لم يُعيِه قرنٌ كامل من حياة مكتظة بالمحن والحروب والمقاومة للنازية والعمل الوطني، وأشواط عمر حلقاتها الانتقال بين القارات والعلاقات الإنسانية والصّلات العلمية، زاخرة بالمعرفة، ثرية بالتكوين الأكاديمي والتفكير المتعدد الخصب في ميدان العلوم الإنسانية، جعلت من صاحبه أحد علماء الإنسانيات الاجتماعية الكبار في القرن العشرين، أثمرت أكثر من مئة مؤلف، وهو وحده ذاكرة ومخزن لمختلف التيارات الفلسفية والصراعات الفكرية والإيديولوجية التي مثلت الزمن المعاصر الموصوف بالحداثة وما بعد الحداثة، ودائمًا في خط التقدم والتنوير لخدمة البشرية ومن أجل غد أفضل لمستقبلها وبيئتها.

رغم أن ذكرى ميلاد موران حلّت في صيف قائظ ووقت عطلة، فقد استبقته دور النشر الفرنسية بإصدارات توثيقية وتعريفية وأخرى مونوغرافية لمسار حياة وحصيلة فكر، منها كتاب طريف لصديقه أستاذ الفلسفة فرنسوا ليوني (Edgar Morin -abécédaire) ألفه في صيغة بمنهجية قاموس أبجدي يتتبع فيه الأفكار والاهتمامات التي شغلت موران وتمثل محاور شخصيته العلمية وإنسانيته أيضًا، مستوحيًا طريقة تأليفه من المنهج الفكري لشخصية عمله تاركًا للقارئ أن ينجز جمع الحروف إن شاء فينهض أمامه بنيان متماسك، أو ينتقي أجزاء، وسيستفيد منها ويستمتع، لغنى كل عنصر منها على حدة. وقد أحصيت حروفه بحسب تسلسلها الأبجدي اللاتيني فوجدتها أربعًا وخمسين، تتوزع بين أسماء الأعلام التي عرفها أو تأثر بها، والمدن حيث أقام ودرّس وأثّر، وخصوصًا المصطلحات المفاتيح لفكره.

كتاب فرنسوا ليوني حول صديقه إدغار موران.

دعوني في الأعلام أذكر: هراقليطيس، هيدغر، باسكال، مصالي الحاج، تورين، ماركس وهارنت. وفي العناوين العامة مما يدخل في الهوى والشغف: صداقة، حب، أغنية، سينما، افلامنكو، موت، مترو، دين، مقاومة، حياة، دين، وفي البلدان: أميركا اللاتينية، إسبانيا، إيطاليا، نيويورك. كل بلد يفتح أفقًا على جغرافيا وحضارة ومدنية وحضور. أمّا عماد القاموس فمفاهيم التفكير والتحليل التي نحتها واستخدمها إدغار موران في أبحاثه وتحليلاته، أبرزها المعتَمد: تركيب، تأزيم، تربية، شمول، لغة، براديغم، سياسة، حضارة... حين نتوقف عند كل مفردة، وعلَم، ومصطلح، ومفهوم، سنجده رمزًا لمرجعية واختصارًا لها، مستمدة من المؤلفات، ومن الاستخدام في المحافل الأكاديمية والمنتديات حيث علّم وانخرط فاعلًا في أدوار ريادية ملتزمًا الدفاع عن قضايا الإنسان في كل مكان من دون تحزّب. هو، إذن، دليل سير وعناوين مركزية لفكر فلسفي وسوسيولوجي وإنسانوي متحرك ومتحوّل يتداخل فيه الإبستمولوجي (فلسفة العلوم) بالأنتربولوجي (الدراسات الإنسانية). يخضعان معًا عنده لغربال النقد الذاتي، عبر أداة المساءلة وبواسطتها، تبدأ بخلخلة اليقين واليقيني والمُعطى. وستخطئ الطريق إليه وفهمه، إن أنت حبسته في خانة فكرية واحدة، وعزلتها عن باقي الخانات الصانعة للمعارف والخبرات والعناصر المادية والوقائع العملية، ينبغي وصلَ هذه المكونات جميعها ببعضها وهو يتنقل بينها يجسِِّرها، رابطًا بين الأجزاء متفاعلة ومتداخلة.

يقودنا هذا إلى اختيار التمثيل بأهم مفاهيم الفكر الموراني، أولها المفهوم - المفتاح: التركيب (Complexité)، من اللاتيني (Complexus) تعني ضمَّ ونسجَ مجموعًا، بناءً على مبدأ أن التركيب يستدعي التجميع من دون تنميط، والتمييز بلا تفرقة، مع ربط يقترن باللاّ يقين. على عكس المعهود في الفصل بين الخطابات في المدارس والجامعات مما يؤدي إلى العزل، بينما المقتضى هو الربط، هذا مبدأ التركيب، ويصبح طريقة في التفكير (التركيبي). يعتمد هذا المفهوم أيضأ على مبدأ (الحوارية) بحيث إن حقيقتين تتعارضان وهما تتكاملان. مبدأ يصنع الثنائية في صيغة الوحدة. ينهض براديغم التركيب كذلك على مبدأين:

1- التوالد اللانهائي وهو يقطع مع السببية المتتالية لفائدة سببية استمرارية، معها فإن الأسباب تنتج الأفعال التي تعيد تنظيم الأسباب.

2- مبدأ "hologrammatique" يفيد أن الجزء يحتوي على الكل، الكلّ في الجزء وكلّ خلية من عضويتنا جمع للجسد. الأفراد نتاج المجتمع والعكس.

الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران.

مفهوم آخر مستخدم عند موران، ومتداول اليوم مع نقص في فهم معناه، Paradigme يُترجم في العربي بـ"إبدال" أو يستعمل في أصله وهذا أفضل. يُعرّفه بأنه مكوّنٌ من مفاهيمَ جوهرية ومراتبَ قابلة للفهم، وبعلاقات منطقية بين هذه وتلك. البراديغم هو طريقة في مراقبة المنطقي والدلالي وينتج المعنى، كما يحدد شروط تنظيم الأفكار. يعتبر موران أن هناك براديغم التركيب وهو مجموع المبادئ البيّنة، وهي متواشجةٌ في ما بينها يمكن أن تحدد شروط رؤية مركبة للكون، في مواجهة براديغم البساطة أو التبسيط وهي السائدة اليوم.

يتوقف القاموس الأبجدي في حرف M عند الذخيرة المعرفية الكبرى لإدغار موران باسم وعنوان "Méthode" كتابه من أربعة أجزاء سهر على تأليفه ونشره من 1977 إلى 2004. يختلف عن كتاب (خطاب المنهج لديكارت) المؤسّس على برنامج علمي، برفضه البرمجة المسبقة وما هو مكتوب سلفًا. المنهج عنده ليس تقنية ولا برنامجًا، إذ يواجهنا بتعقيد الحقيقة، وهي متعددة الأبعاد. يرجع إلى أصل المصطلح عند الإغريق (meta-odos) المسار، الطريق غير المرسوم، وهو يرتسم بقدر ما نمشي فيه. طالما أحب موران الاستشهاد بأبيات الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: "أنت يا من يمشي، إنها آثارك/ هي من يصنع الطريق لا شيء غيرها/ أنت من يمشي، ولا يوجد طريق/ الطريق يُصنع وأنت تمشي"، وفي صميم التعريف: "ما يعلمك أن تتعلم، هذا هو المنهج".

أخّرنا الوقوف عند الحرف الأول للأبجدية اللاتينية A في القاموس المخصّص للمفاهيم والكلمات المفاتيح عند موران لنجعلها مسك ختام هذه القراءة، وهل أكثر استحقاقًا وقربًا إلى النفس من كلمتي: "Amitié" صداقة، و"Amour" حب. يستخدم موران مفهوم التركيب المبني على الضّمّ والنسج لتعريف الصداقة، نسج علاقة، ما يجعله الناس سواسية وهم مختلفون في الفضاء العام للمواطنة (المدينة) والخاص (حلقة أصدقاء). يؤكد على صورة النسج، فالصداقة تمر بطرق مختلفة، باختبارات، بمحِن، بفشل، أحيانًا ثمة حاجة لقصّ النسيج وهكذا. أما الحب، فمن يعكف على قراءة أعمال موران سيجد هذه العاطفة هو محركها مما قال عنه: "أعطاني طاقة العمل، وشفاني عند المرض، وأنقذني حين ضعت". عنده أن الإنسان لا يملك العقل وحده حسب تعريف أرسطو، بل الإنسان أيضًا قابل لجنون الحب وهذيانه وعاطفته . في كتابه: "حب، شعر، حكمة" (1997) يرى أن عالمنا المعاصر المحكوم بالتقنية والكمية، أنسانا الأهمية الحيوية للشعر، من دونه إنسانية الإنسان ناقصة. "الحب جزءٌ من شعر الحياة، والشعر جزء ٌمن حب الحياة". وبالمعرفة الشخصية الواثقة، أعلم أن إدغار موران ما زال، وقد طوى قرنًا خلفه، ذا قلب شاب ينبض حبًّا مقبلًا على العيش والجمال ويفكّر بتركيب دقيق.