تأليه المغني: روح في جَسدين!

إن اعتليت مقود سيارتي، ظننت نفسي بطل الفورمولا واحد مايكل شوماخر... وإن انتصبت على مسرح، أو حتى على طاولة في مطعم في حفل ساهر، ظننت نفسي سامية جمال رقصاً وتلوّياً، وإن حاولت أن أرنّم أغنية لعبد الحليم حافظ، أرفّع صوتي حيناً وأجعله جهورياً أحياناً لأتماهى معه، لظننت أن الشبه بيننا تام، لولا الشعر والتسريحة. حتى في تجويدي القرآن الكريم، أذهب مذهب الشيخ مشاري العفاسي في عُربه ومقاماته الجميلة، وليس لي فيها إلا حفظ الآي لا أكثر.
هذه سنّة بشرية مؤكدة، فكلّ منّا يتعلّق بمثال... والأقربُ دائماً إلى أن نتمثلَ بهم هم المغنّون، لأنهم مثلنا، من عامة الناس، لا يتميزون منا إلا بالصوت الجميل والهيئة المحببة، حتى إذا غنّوا أغنيتهم مسّوا فينا وتراً حساساً. حينها، من يجسّ منا النبض يجده مسابقاً الريح شغفاً، أو حزناً، أو عشقاً، أو شوقاً.
أحياناً، يسمع أحدُنا أغنية، فيقول "إنها لي وعنّي، تحكي حكايتي وتصف لوعتي"، وهكذا... يزداد تمثله بمغنيها، والتصاقه به، حتى يظنّ الفرد أنّه والمغني المشهور "روحاً حللنا في جسدين".
لكن، لِمَ نتعلّق بمغنٍ أو مرنّم أكثر مما نتعلّق بممثل؟ للصوت رنّته في النفس، وما تصاحبه من كلمات تجعله سهماً يُصيب منا القلب رأساً. ونحن العرب متعلقون بالكلم، فبه ذاعت سوق عكاظ، ومنه عُلّقت المعلّقات، وله احتشد الشعراء من أبو الطيب المتنبي حتى نزار قباني، ولأجله كتبت الدواوين وسوّدت الصحف، وبتلحينه تأوه الندّام وتمايلت الجواري؛ فليس من وقع أشدّ وطأة من شعر مغنّى، تبثُّ فيه لواعج القلب، ولا أسرع إلى القلوب من لواعج قلب ملتاع؛ لذا تصل الكلمة المغناة سريعاً إلى النفس، فتسكن الوجدان.
وبما أننا، نحن العرب، مبتكرون في فني الإسقاط والإدغام، سهل علينا أن ندغم الكلام بالمتكلم، فنعشقه بغثّه وسمينه، ونعلنه ناطقاً رسمياً بلساننا، بارعاً في وصف حالتنا، نتسقّط أخباره من مجلة إلى أخرى، ونتبعه من حفل إلى حفل، ونتطاول للمسه من زنقة إلى زنقة، ونرتدي ملابسه، ونتعطّر بعطره، وندافع عنه في خطئه قبل صوابه، ونتماهى معه في كلّ شيء، حتى يبدو الأمر أشبه بعاهة نفسية... إذ يصل هذا الأمر أحياناً - في بلاد الغرب أكثر من بلادنا – إلى التهيّؤ بأنه عشيق أو حبيب، فيتحول الأمر إلى محاولات اختطاف أو قتل.
ليس الأمر افتتاناً فحسب، إنما هو حبّ التملّك الطبيعي في الصغر، والمرضيّ في الكبر. فالكلام المُغنّى يحرّك في المصغي متعاً تتراوح ما بين السويّ والغبيّ، والوديع والفظيع، ومن هذه النقطة يخرج الإنسان عن سويّته، سلباً أو إيجاباً، حتى يصبح ملبوساً بجنّيّ المثال الأعلى، منقاداً وراءه وكأنه الخيط الرفيع الذي يصله بالحياة، ويحلو بعد انقطاعه الموت.
مغالاة إن قلنا هذا جنون، ومداراة إن قلنا إنه ممكنٌ أن يكون. ففي الحالين، هذا رهاب النفس الأمّارة بالسوء، والتي تحرّكها كلمة سابقة وتالية، إذ تتعطل في الإنسان لغة العقل.
لا ضير في أن أرى لنفسي مثالاً أعلى في هيفاء وهبي، فهي أخيراً وليس آخراً من وجوه الغناء العربي، ربّت لنفسها أجيالاً متعاقبةً من الـ "فانز" المتقاتلين لاسترضائها. لكن، يصير الأمر خطيراً إن آمنت بأن في "بوس الواوا" شفاء كل عليل. ولا لآ؟