كولن ويلسون يضع الجريمة والإبداع في كفتي ميزان... طبعة عربية لكتاب "التاريخ الإجرامي للجنس البشري"

في كتابه "التاريخ الإجرامي للجنس البشري"، يمزج الكاتب الإنكليزي كولن ويلسون (1931 – 2013) علم النفس والفلسفة والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ وعلوم أصول الإنسان وعلم الاجتماع، في سبيكة فريدة، لخلاصة فكره وثقافته وتجاربه مع ظاهرة الجنس البشري، ورؤيته لذلك الكائن الذي يجمع بين الإبداع والجريمة. الإبداع الذي شيّد حضارات وقدّم إنجازات باهرة. والجريمة التي تهدم وتمحي وتسعى إلى تحقيق مآربها من طريق الاختزال والاختصار والاغتصاب. فالكتاب الذي صدر في طبعة عربية جديدة عن المركز القومي للترجمة في القاهرة بتوقيع رفعت السيد علي، ليس سوى محاولة لفهم قصة الجنس البشري في ضوء التناقض بين الجريمة والإبداع، ثم الاستعانة بالنتائج التي يمكن التوصل إليها للتنبؤ بالمراحل اللاحقة من تطور الجنس البشري.
ينطلق ويلسون في هذه الدراسة الموسوعية من معارضة لكتابي "مجمل التاريخ"، و"التاريخ الموجز للعالم" لهربرت جورج ويلز (1886- 1946). ففي هذين الكتابين كان ويلز أبعد ما يكون عن إدراك كمّ الشر البشري الكامن، ذلك الشر الذي دفع أرنولد توينبي في كتابه "دراسة التاريخ" إلى أن يتحدث عن "الشكل المرعب لخطايا البشر الذي يبدو من خلال العلاقات البشرية".
اتسمت وجهة نظر ويلز، عن الجريمة، بحسب ويلسون، بنزعة برغماتية واضحة، تتعلل بالذرائع والدوافع والتبريرات، فقد تناولها كأنها "جانب وافد ودخيل على الفرد الطبيعي السوي، يفرضها عليه المجتمع والقانون حتى يحافظ المجتمع ككل على استمراره وبقائه" ص 18. وينطلق ويلسون من يقينه أن الإنسان مجبول على التوق إلى الحرية المطلقة، ومن ثم فإنه مستعد على نحو فطري لارتكاب الكثير من الجرائم ليشعر بذاته وحريته، بحسب تحليل مصطفى عبادة الوارد في تقديمه لترجمة رفعت السيد علي.
في قصته "لاعب الكروكيه"، بلغ ويلز درجة متقدمة من الوعي بقدرات الإنسان الكامنة على ممارسة القسوة المحضة والمجردة، وأن لدى البشر قدراً كبيراً من السادية والتلذذ بتعذيب الآخرين، وفق ما استخلصه ويلسون. ومع ذلك يرى أن ويلز لم يكن على وعي أو دراية بأن تاريخ البشر منذ عام 2500 قبل الميلاد، يختزن قدرا هائلا ومتواصلا من العنف والقتل وإراقة الدماء، ثم أجبرته الوحشية البشعة للنازية الألمانية على النظر إلى تلك الحقيقة بجدية أكبر. ويبدو أن الرعب الذي صاحب مأساة هيروشيما ونغازاكي وما كُشف عنه مما كان يحدث في معسكرات اعتقال "بلسن" و"بوخنفالد" النازييْن قد أقنعه بأن البشر أصبحوا الآن أقرب كثيراً إلى تدمير ذواتهم عن بداية ظهورهم على سطح الأرض، وأن "نهاية الجنس البشري" أصبحت "حتمية ووشيكة". ويخلص نلسون في هذا الصدد إلى أن قدرة الإنسان الخلَّاقة والمبدعة هي الحقيقة المركزية الوحيدة في نظر ويلز، أما ما عجز عن إدراكه فهو أن ذكاء البشر قد صاحبه بعض الجنوح والخلل وعدم التوازن، ونتجت منه مخاوف ضيقة دفعتهم إلى الانغماس في حسابات مستمرة وقسوة متحجرة لا تعرف الرحمة، تلك القسوة التي تدفع إلى انتهاج الطرق المختصرة لتحقيق الغايات والرغبات، أي اللجوء إلى الجريمة.
ولاحظ ويلسون أن أسوأ أنواع الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياء، بل متحضرون أذكياء يتخذون تلك القرارات بعد أن يوفروا لها المبررات والدوافع التي يتعللون بها. والدافع الإجرامي ليس شذوذاً ولا جنوحاً لفعل الشر بدلاً من فعل الخير، بقدر ما هو مركب وميْل طفولي يدفع البشر إلى الاستسهال والاختصار، معتبراً أن كل جريمة تنطوي على طبيعة تتسم بالتدمير والانتزاع واغتصاب شيء والاستيلاء عليه بغير استحقاق باستخدام القوة أو بالإغارة أو بالعنف، وهي نزعة للحصول على شيء مقابل لا شيء، فاللص يسرق ما يريده بدلاً من العمل والكدّ للحصول عليه، ومغتصب الأنثى يستعمل العنف بدلاً من إغوائها لتعطيه نفسها طواعية.
يتألف الكتاب الذي صدرته طبعته الإنكليزية الأولى عام 1984، من 774 صفحة من القطع فوق المتوسط، في ترجمته إلى العربية، وجاء في ثلاثة أجزاء، الأول عنوانه "سيكولوجية العنف البشري"، ويتضمن خمسة فصول: "أنماط خفية من العنف، الإنسان العنيف، تدمير الذات، كيف تطور الإنسان، ومساوئ الوعي". الجزء الثاني "السياق الإجرامي للتاريخ"، ويتضمن 11 فصلاً: "قراصنة ومغامرون، مدينة بلا مضمون، من نيرون إلى قسنطين، نهاية الإمبراطورية الرومانية، الفوضى تجتاح أوروبا، قتلة وغزاة، رحالة ومغامرون، الكنيسة المظفرة، التاريخ بغير قواعده، من الفردية إلى التمرد، وقرن من الجرائم". والجزء الثالث "عصر القتل الجماعي"، ويتضمن 6 فصول: "تصاعد الجرائم الجنسية، التمرد، المافيا، الإجرام السياسي، انفجار الجريمة، والإحساس بالواقع". وتعتبر هذه الترجمة العربية الأولى للكتاب بأجزائه الثلاثة فقد سبق نشر ترجمة الجزء الأول منه فقط وقد أنجزها رفعت السيد علي أيضاً في طبعة محدودة تولتها "جماعة حور الثقافية"، بحسب تقديم الكاتب مصطفى عبادة للطبعة الجديدة.
ويقول ويلسون: "حين ندرك ذلك، نجد أن الإجرام ليس شذوذاً يتسم بالطيْش والتهور أو نزعة مرضية لانتهاك القانون، بل نتيجة حتمية مصاحبة لتطور الذكاء البشري ونموه، أو هو الوجه الآخر - كرد فعل عنيف - لنمو قدرة البشر على الخلق والإبداع" ص 19.
واستناداً إلى ملاحظة كل من تنبرغن ولورينز أن العدوانية الحيوانية ترجع بدرجة كبيرة إلى مكون الانتماء لمكان ما والإحساس بامتلاكه، يلاحظ ويلسون أن كل الحروب عبر التاريخ، كانت تدور حول امتلاك الأماكن، "حتى السلوك الدموي والإجرامي للطغاة كان له ما يوازيه في عالم الحيوان". ويخلص ويلسون إلى أن "عالم الحيوان علمنا أن الجريمة ليست إلا جانباً من ميراثنا الحيواني، وأن التاريخ البشري يمكن تناوله والنظر إليه كمرجع مصوّر لعلم الاجتماع الحيوي" ص 21.
نشر ويلسون كتابه الأول "اللامنتمي" عام 1956 وينظر إليه باعتباره صاحب الفضل في نشر الفلسفة الوجودية على نطاق واسع في بريطانيا، على الرغم من تقليل عدد كبير من النقاد الإنكليز من قيمته العلمية، وهو الأمر الذي تكرَّر مع كتابه الثاني "الدين والتمرد" (1957). وتنوّعت موضوعات كتبه بين الفلسفة، وعلم النفس الإجرامي، والرواية. في الفلسفة أكمل سلسلة "اللامنتمي": "عصر الهزيمة" 1959، "قوة الحلم" 1961، "أصول الدافع الجنسي" 1963، "ما بعد اللامنتمي" 1965. ومن رواياته: "طقوس في الظلام"، "ضياع في سوهو"، "رجل بلا ظل"، "القفص الزجاجي"، و"طفيليات العقل".