ثقافة 27-05-2025 | 15:44

كانّ 78 - الإنسانية المنزوعة والمُستعادة في "عائشة لا تستطيع الطيران"

كانّ 78 - الإنسانية المنزوعة والمُستعادة في "عائشة لا تستطيع الطيران"
"عائشة لا تستطيع الطيران" لمراد مصطفى.
Smaller Bigger

قنبلة سينمائية فجّرها المخرج المصري مراد مصطفى في مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار) مع فيلمه "عائشة لا تستطيع الطيران"، الذي عُرض ضمن "نظرة ما"، ليشكّل واحدة من أكبر مفاجآت دورة كانت خالية من الخضّات الكبرى.

دخلتُ إلى الصالة في أحد العروض الاستعادية، خارج الإطار الرسمي للمهرجان، وأنا لا أحمل الكثير من التوقّعات. كان الاسم وحده في العنوان – "عائشة" – كفيلاً بأن يثير في داخلي توجّساً. فهذا الاسم، في المخيلة الغربية، بات رمزاً للنمطية والاستشراق، مذ صدح الشاب خالد بأغنيته الشهيرة. ثم انه، كثيراً ما اتُّهِم أمثال مصطفى بإعادة إنتاج هذا التصوّر النمطي. لكنه، في أولى تجاربه الروائية الطويلة، قرر أن يكسر القوالب ويقول شيئاً آخر — شيئاً جديداً، طازجاً، جريئاً، لا يعرف المساومة.

يفتتح الفيلم بمشهد لعاملة منزل سودانية في القاهرة تنفض الغبار. مشهد كثيف الدلالات. تلك هي عائشة (بوليانا سيمون)، التي ترافقنا منذ اللقطة الأولى حتى النهاية. تسير في الشارع بثبات الرصاصة، قليلة الكلام، ولا تفتح قلبها إلا حين تتواصل مع أهلها الذين تركتهم في قلب الحرب المستعرة في السودان. ابتسامتها شحيحة، وربما معدومة، ففي بيئة معادية لا تملك فيها أحداً، لا شيء يدعو الى تلك البسمة. في المشاهد الأولى، نراها تؤدّي أعمالها في منزل سيدة تعيش في مبنى متداعٍ يطل على ميدان التحرير. على مدار ساعتين، نتابع يوميات هذه السودانية الصامتة في قلب أحياء عين شمس وجوارها، امرأة لا تفعل بقدر ما تتلقّى، شاهدة على واقع يعصف بها من كلّ اتجاه، من دون أن تمتلك أدوات الرد أو حتى الرغبة في التفاعل.

 

واقعية مطعّمة بفانتازيا.
واقعية مطعّمة بفانتازيا.

 

تمر بنا تفاصيل يومياتها الثقيلة: من طوابير المؤسّسات الحكومية، إلى صدامها مع مسنّ تعيله لقاء أجر يوفّر لها بالكاد كفاف يومها. كلّ شيء يمرّ أمام كاميرا مراد مصطفى بلا مواربة: مواجهات بين عصابات مصرية وأفريقية، مخدرات، عنصرية دفينة، احتكاك مباشر مع أجهزة الأمن... كل ما لا تودّ السلطة المصرية رؤيته على الشاشة يضعه مصطفى في صلب مشاهده.

القهر الذي تعيشه عائشة لا اسم له ولا ملامح. لا نعرف إن كانت عاجزة عن الابتسام، أم أن المخرج قرر ألا يمنحها هذا الحق. لكن ما نعرفه يقيناً هو انه، ببصيرته السينمائية، اختار أن يُرينا الواقع المصري الراهن من خلال عيني غريبة، تقف خارجه تماماً، ما يولّد تلك المسافة الجمالية بين الراصد والمرصود، بين الناظر والمنظور، وهي المسافة التي تصنع سحر الفيلم مشهداً بعد مشهد.

نحن هنا حيال سينما تنتمي إلى التيار الناتورالي: لا مؤثّرات، لا ادعاءات بصرية. سرد صاف، يعتمد على ما يُرى. العِبَر تستخلص من الصورة، لا من الخطاب. لا وجود لكلمة واحدة يمكن أن تُحسب وعظاً أو شعاراً. الشخصيات كلها سلبية أو شبه سلبية، بل ترغب فقط بأن "تُترك وشأنها"
نتعقّب خطى عائشة لننغمس في عوالم المهاجرين، أولئك الذين يعيشون ككتل بشرية غير مرئية، في هوامش المدينة وخلف زجاجها المعتّم. الفيلم يمنحنا لمحة على هذا الوجود الغامض، من دون أن يسعى إلى تفسيره أو تبريره. الرجال في هذا العالم غالباً ما يظهرون رموزاً للسوء، بينما النساء يتأرجحن بين الضحية والجانية. لا أحد تقريباً ينجو من نظرة الفيلم السوداوية، وهي سوداوية لا يمكننا أن نلومه عليها، بل تكاد تكون مبرَّرة بالكامل في واقع لا يرحم.

ومع تقدّم الفيلم، تزداد عائشة حضوراً، ويضيق الخناق حول مصيرها. شخصيتها المنغلقة والمتحفّظة ترسم معالم السرد، وتحمل وحدها عبء الحكاية. حين تتكئ برأسها على زجاج الحافلة، تمنحنا مشهداً سينمائياً مكتمل العناصر. لقطة تُغني عن صفحات من السيناريو، تختصر آلاف الكلمات في صورة واحدة.

 

مراد مصطفى في كانّ.
مراد مصطفى في كانّ.

 

لكن، إلى أي مدى تُعدّ عائشة شخصية "حقيقية" من لحم ودم؟ وهل يُمكن، ببساطة، حذفها كما يُحذف ملف، بالضغط على زر، فيبقى الفيلم على حاله؟ يلقي المخرج عليها بكلّ شيء، وكأنه توقّف عن النظر بنفسه. صارت عينيه، أذنيه، إحساسه بالعالم.

لكن، مجدداً، إلى أي حد تُعتبر عائشة شخصية قائمة في ذاتها؟

قد يُقال، بنظرة سينيكية، إن المخرج لا يهتم بها إلا بقدر ما تتيح له دخول هذا العالم المخفي. وقد يبدو هذا اتهاماً فظاً، غير منصف. لأن ما يحدث فعلاً هو تفاعل خفي بين عائشة وما تراه، بينها وبين ما تعيشه. وفي النهاية، الرائي يصبح مرئياً فقط لأنه يرى.

تكمن براعة هذا النوع من السينما، المتخم بالواقعية مع ومضات فانتازيا، في انه يقول الكثير من دون ان يقول شيئاً، مكتفياً ببعض الإشارات. علينا ان نبذل جهداً كي نفهم ان الريش الذي ينبت من أسفل بطن عائشة دليل على ما تتعرض له من تجريد لإنسانيتها.

"عائشة…" فيلم بلا نوتة موسيقية، وهذا وحده تحدٍ لا يُستهان به في بناء الإيقاع السينمائي. فالموسيقى كثيراً ما تؤدّي وظيفة المكياج في السينما: تُغطّي العيوب. لكن هنا، يُصاغ الإيقاع من هدير المحركات، وزمجرة الشوارع، وزحام الأصوات اليومية في مدينة لا تنام. القاهرة، بكلّ فوضاها السمعية، تتحوّل إلى لحن حقيقي، تُسمع فتُرى، وتُرى فتُحَس.

صورياً، الفيلم يحمل واقعية جمالية مشبّعة بتأثيرات من سينمات مختلفة، لكنه يهضم هذه التأثيرات بذكاء، ويعيد إنتاجها من خلال كاميرا مخرج يعرف كيف يستعير من دون أن يفقد أصالته. كلّ لقطة محمّلة دقّة شاعرية، رغم خشونة البيئة وقسوة التفاصيل.

أعترف أني في الدقيقة الثمانين (نعم، أنظر إلى الساعة أحياناً خلال العرض)، تساءلتُ: إلى أين يحملنا الفيلم؟ ومع ذلك، يبقى الشعور بالتماسك حاضراً. كلّ مشهد يطرح سؤالاً مفتوحاً على ما سيليه. كلّ لحظة تحمل احتمالاتها الخاصة، من دون أن تفقد الخيط الدرامي أو التوتّر البصري. 

مراد مصطفى يجوز ضمّه إلى نادي السينمائيين "سوء الظنّيين"، أولئك الذين يفترضون الأسوأ من شخصياتهم، لكنهم لا يسلبونها إنسانيتها. شخصياته تبدو كما لو أنها "عايزة ومستغنية" في آنٍ واحد، أي محتاجة لكن رافضة أن تُظهر ذلك. وهذا هو جوهر عائشة: تفاوض على كلّ شيء، لكنها لا تساوم على كرامتها.

 

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/15/2025 8:43:00 PM
 خلف الحبتور: في موقف يعكس غطرسة لا حدود لها، يخرج رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ليأمر سكان غزة بإخلاء مدينتهم، وكأنها ملك له يوزع أهلها كما يشاء
المشرق-العربي 9/12/2025 12:25:00 PM
إقفال منتجع "إكس بيتش" في منطقة وادي قنديل في محافظة اللاذقية.
شمال إفريقيا 9/15/2025 11:56:00 AM
محاكمة سيدة متهمة بقتل زوجها وأطفاله الستة في قرية دلجا التابعة لمركز ديرمواس بمحافظة المنيا
لبنان 9/14/2025 2:53:00 PM
 تغيير مسار طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط المتجهة من بيروت إلى مطار هيثرو في لندن بسبب عارض صحي أصاب أحد الأطفال