
”كواكب“ لموموكو سيتو.
كيف يمكن تناول فيلم مثل "كواكب" للمخرجة اليابانية موموكو سيتو، المقيمة في فرنسا منذ سنوات حيث درست السينما، من دون أن نقع في فخ التبسيط أو الإجمال؟ هذا الفيلم، الذي اختُتمت به عروض "أسبوع النقّاد" في مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار)، يتحدّى الوصف التقليدي، ويعسر احتواؤه بكلمات مألوفة أو تعابير جاهزة. فهو في جوهره تجربة محض بصرية، لا حضور فيها للكلمة ولا للإنسان، أو بالأحرى، الإنسان موجود بغيابه، كظلّ ثقيل ترك بصماته الخربة على الكوكب.
"أوديسة الهندباء"، كما يسمّيه عنوانه الإنكليزي، ليس سرداً تقليدياً ولا بحثاً في حبكة. إنه رحلة، انزلاق في الفضاء، تأمّل طويل في المصير والتجدّد. لا يمكن مقارنته بسهولة مع أعمال أخرى، وإن كانت أفلام مثل "ميكروكوسموس" و"الأمة المهاجرة" تمرّ في البال من باب الصلة الوثيقة بالطبيعة. لكننا هنا أمام شيء مختلف تماماً: فيلم يُؤخَذ كما هو أو يُترك، بلا منطقة وسطى. إما أن تغوص في أعماقه أو تنسحب من عتبته الأولى.
والحقيقة أن ما نراه طوال 76 دقيقة ليس هو ما "يُقال"، بل ما يُحَس ويُشاهَد. فيلم يستبدل الحبكة بالإبهار، والسرد بالتأمّل، جاعلاً من الصوت والصورة ثنائياً لا ينفصل. غير أن هذا الإبهار البصري والسمعي لا يتحقّق إلا في مكانه الطبيعي: صالة السينما، وعلى شاشة كبيرة تتيح للصورة أن تبسط سلطتها الكاملة. الصورة هنا غاية؛ ليست خلفية، هي بؤرة المعنى ومركزه.
تنشد سيتو أنشودة للطبيعة والبقاء. نتعرّف فيه الى دانديليون، بارابان، ليونتو وتاراكا، أربع بذور طائرة من نبات الهندباء، نجت من دمار نووي شامل قضى على كوكب الأرض، لتنطلق في رحلة عبر المجرّات بعدما دفعتها العواصف إلى الفضاء. تتحطّم على كوكب مجهول، وتبدأ في البحث عن تربة تحتضنها وتحفظ جنسها من الفناء.
أنشودة للطبيعة والبقاء.
لكن الأرض الجديدة ليست جنّة، فيها عناصر غريبة وعدائية. ستواجه هذه "الكائنات" الدقيقة تحديات لا تُعد: قسوة المناخ، غرابة الكائنات الأخرى، عداوة البيئة. إنها مغامرة للبحث عن أصل جديد، في كون لا يرحم، حيث لا تملك هذه البذور سوى إصرارها على الحياة… ورغبتها في أن تزهر من جديد.
تمثّل موموكو سيتو حالة نادرة تتقاطع فيها الحساسيات الفنية مع الفضول العلمي والدقّة البحثية. هذه الحائزة جائزة من المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا — جائزة مرموقة تُمنح لأولئك الذين يساهمون في تجسير الهوة بين الفن والعلم — لا تكتفي بالوقوف عند عتبة المعرفة، إنما تنخرط في صميمها، مدفوعة برغبة دؤوبة في إعادة اكتشاف العالم من حولنا.
منذ عملها القصير الأول "كوكب أ" (2008)، تُجيد سيتو اللعب على حدود الإدراك البشري. تُعيد ضبط المقاييس الزمنية والفراغية، وتكسر الحواجز بين الميكروسكوبي والماكروسكوبي، لتصوغ عوالم لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تلامس شيئاً عميقاً في وعينا. كلّ صورة في أعمالها هي محاولة لإيقاظ هذا الوعي، لاستفزازه وإعادة تشكيله.
في "كواكب"، ترتقي هذه المقاربة إلى مستوى ملحمي. لا تكتفي برصد العالم الطبيعي، إنما تُعيد تخيله من جديد. نرى كوكباً يبدو كأنه خرج من حلم بيولوجي مشوش، أو كابوس بيئي في طور التكوين: مألوف في عناصره، غريب في تكوينه، مذهل في تفاصيله. هنا، تمتزج المعرفة العلمية بالخيال البصري، لتنتج تجربة حسّية فريدة، تقف في نقطة التماس بين التأمل البيئي والرحلة الفلسفية. فيلم سيتو دعوة إلى مشاهدة عالمها، بل إلى دخوله، وهو عالم تُعيد فيه السينما دورها الأصيل: أن تجعلك تحس بما لا يُقال.
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
العالم العربي
9/15/2025 8:43:00 PM
خلف الحبتور: في موقف يعكس غطرسة لا حدود لها، يخرج رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ليأمر سكان غزة بإخلاء مدينتهم، وكأنها ملك له يوزع أهلها كما يشاء
المشرق-العربي
9/12/2025 12:25:00 PM
إقفال منتجع "إكس بيتش" في منطقة وادي قنديل في محافظة اللاذقية.
شمال إفريقيا
9/15/2025 11:56:00 AM
محاكمة سيدة متهمة بقتل زوجها وأطفاله الستة في قرية دلجا التابعة لمركز ديرمواس بمحافظة المنيا
لبنان
9/14/2025 2:53:00 PM
تغيير مسار طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط المتجهة من بيروت إلى مطار هيثرو في لندن بسبب عارض صحي أصاب أحد الأطفال