متى يحتفل لبنان بالفيلسوف الفينيقي زينون الرواقي؟

ثقافة 24-03-2025 | 13:37

متى يحتفل لبنان بالفيلسوف الفينيقي زينون الرواقي؟

للبنان كل الحق في الاحتفال بذكرى مرور 2360 عاماً على ولادة زينون
متى يحتفل لبنان بالفيلسوف الفينيقي زينون الرواقي؟
زينون الرواقي وقدموس الذي علم بلاد اليونان على الأحرف الأبجدية
Smaller Bigger

الدكتور كمال ديب

 

يكثر كلام غير دقيق وصل إلى الكتب الأكاديمية والرصينة، عن أنّ أجداد الشعب اللبناني، الفينيقيين، كانوا تجاراً فحسب، ولم يكونوا أصحاب ثقافة، فلم يخرج منهم عالم وفيلسوف كما خرج من شعب اليونان. ولكن نظرة فاحصة تثبت أنّ الفينيقيين ابتكروا حروف الأبجدية وعلّموها للشعب اليوناني فكانت الأحرف هي الوسيلة لإشعال عصر النهضة الإغريقية المعروفة بالهلينية في أواسط القرن الرابع قبل الميلاد. ثم إنّ اللغة الإغريقية باتت لغة الفينيقيين في بلاد الشام، ومن الخطأ اعتبار كل من كتب بها يونانيا، ومثال على ذلك الفيلسوفان زينون الرواقي الصيداوني الأصل وبوسيدونيوس الآفامي من حمص.     

 

وللبنان كل الحق في الاحتفال بذكرى مرور 2360 عاماً على ولادة زينون، حيث نتذكر هذا الإنسان العظيم الذي ولد في لارنكا (كيتوم الفينيقية) وأصله من مدينة صيدا، وأسّس الفلسفة الرواقية وكان هو معلّمها الأول. وقد أخذت هذه الفلسفة اسمها من "رواق المعهد" الذي رأسه في آثينا في القرن الثالث قبل الميلاد وباليونانية القديمة Stoia. 

 

أسّس زينون فلسفته على مبادىء الأخلاق، حيث يصل الانسان إلى محبة الخير والشعور الداخلي بالسلام عندما يعيش حياة مستقيمة أخلاقياً ومنسجمة مع الطبيعة. وانتشرت فلسفته في حواضر البحر المتوسط. ولشدّة وقعها استمرّت بقوة في ولايات الإمبراطورية الرومانية، حتى إنّ فلسفته عادت إلى مجدها السابق في عصر النهضة الأوروبية Renaissance باسم "الرواقية الجديدة" Neo-Stoicism وبات اسمها في عصرنا الحاضر "الرواقية الحديثة".    

 

وُلد زينون في لارنكا بقبرص (كان اسمها كَيتوُم، فعرف باسم زينون الكَيتومي) وكان ذلك عام 334 قبل الميلاد، من والدين كنعانيين، واسم والده منسّى واسم أمّه بقي مجهولاً. وكان والده من أثرياء التجار في لارنكا، فعاونه في تجارته. وإضافة إلى الكنعانية لغته الأم، تعلّم زينون اللغة الإغريقية وقرأها وكتَبها لتسهيل تجارة والده. 

 

أمّا كيف وضع زينون الفلسفة الرواقية، فقد كلّفه والده نقل بضائع من لبنان إلى اليونان. وأبحر زينون من لارنكا إلى صيدا في لبنان أولاً، حيث جمع البضائع على ظهر مركب، وسافر إلى مرفأ بيرايوس قرب آثينا. ولكن أثناء الرحلة، اشتدت العواصف، فجنح المركب وكاد زينون يموت غرقاً. وعندما نجا وبلغ اليابسة كان مضطرباً هزّته التجربة. فزار معبدا وثنيا في آثينا، وأثناء صلاته توسّل إلى الآلهة كي تدلّه على أفضل ما في الحياة، وحكى لخدّام المعبد كيف نجا من الموت في البحر. فأجابوه بأنّ الآلهة تنصحه بأنّ عليه أن يكون ممتناً لنجاته من الموت وأن يتبع العلم وليس التجارة والمال، ولكن عليه أيضاً أن يتخذ سحنة الأموات complexion of the dead في وجهه، فلا يضحك من السعادة ولا يبكي مهما اشتدت الظروف. 

وعندما خرج من المعبد، قرّر أن يكون هادىء النفس ولا يضحك بمجون. ففي الحياة ما هو أهمّ من تحصيل المال والتمتع بالثروات، وهو التعلّم، فقرّر أن يدرس على أيدي أصحاب المعرفة. ولحسن الحظ كان يجيد اللغة الإغريقية قرءاة وكتابة بعدما تلقى قسطاً من العلم بفضل أسرته الثرية.

في الأيام التالية، أخذ زينون يتجوّل في السوق، حيث دخل متجراً لبيع المخطوطات وشرح حاجته إلى المعرفة. فنصحه البائع بأن يشتري سيرة الفيلسوف سقراط من تأليف زينوفون  Xenophon Memorabilia. فاشترى زينون هذه المخطوطة وقرأها وأعجبته سيرة سقراطـ، فعاد إلى البائع لعله يدّله على مكان سكن سقراط كي يتعرّف إليه ويتزوّد من حكمته. ويبدو أنّ زينون لم يعلم أنّ سقراط قد توفي قبل 85 سنة (أي عام 399 قبل الميلاد)، فلاطفه صاحب المتجر ولم يذكر له حقيقة أنّ سقراط قد مات. بل أشار إلى أول رجل عبر في الشارع وقال: "هذا هو سقراط". فصدّق زينون ولحق الرجل وأوقفه، وعرف منه أنّ الأمر دعابة من البائع. ولكن شاءت الصدفة أن يكون الرجل مثقّفاً من أتباع منهج السخريةCynics  في الفسلفة واسمه كراتيس. روى له زينون ما حدث معه، فأثار اهتمام الرجل وتعاطفه، ووعده بأن يلقّنه ما يعرف.  

 

أقام زينون في آثينا للتعلّم ووصفه الإغريق من معاصريه بأنّه "شاب فينيقي أسمر البشرة، يعيش حياة تقشّف رغم ثراء عائلته". واكتسب زينون فلسفة السخرية من كراتيس، لكنّه حافظ على وقاره وتهذيبه جراء طبعه الفينيقي وتربية ذويه ووقع النصائح الإلهية التي تلقاها، ما انعكس على تصرفاته التي تميزت عمن حوله من مثقفي السخرية، فلم يأخذ بأفعالهم التي كانت تخدش الحياء بنظره. ولاحظ كراتيس تردّد زينون في تقليد تصرفات الفلاسفة الساخرين، وقرّر أن يوقعه في مقلب ساخر، ولكن زينون لم يتجاول بل عاد إلى بيته عابساً، وقرّر ترك فلسفة السخرية وأن يصل إلى الحقائق بمجهوده الخاص. 

 

وبعد معلّمه كراتيس، درس زينون على أساتذة العصر في آثينا، ثم انتقل إلى مدينة الاسكندرية التي كانت عاصمة الثقافة الهلينية ودرس في مكتبتها. وهناك توصّل إلى معرفة ما قدّمه كبار الفلاسفة والعلماء ومنهم أفلاطون وأرسطو وسقراط. واستمرت إقامته في الإسكندرية عشر سنوات ثم عاد معلّماً إلى آثينا حيث باشر مهنة التعليم عام 301 قبل الميلاد، وذلك في معهد آثينا الشهير الـ"آغورا" agora وله من العمر 33 عاماً. فأصبح له أتباع ومريدون يفخرون بأنّهم تلامذته ويطلقون على ما يتعلمونه منه "الزينية". وأصبحوا يعرفون بالرَوَاقيين Stoics، وهو كما أشرنا اسم القاعة المزيّنة بالأعمدة التي كان يحاضر فيها زينون وتدعى "ستوا بواكيليه"، أي قاعة الرَوَاق Stoa Poikile .

 

جذبت تعاليم زينون ملوك وأمراء ذلك العصر، ومنهم "آنتيغينوس الثاني غوناتاس" ملك مقدونية، بلد الاسكندر المقدوني فيما بعد. فالملك المقدوني دأب على زيارة زينون في منزله لمحادثته كلما حضر إلى آثينا. فالأخير لم يلب دعوة الملك لزيارته لأنّ الملك هو الذي يأتي إلى الفيلسوف والمثقف وليس العكس. 

 

وبلغ الإعجاب بنبوغ زينون وشهرته أنّ حكومة آثينا عرضت عليه الجنسية (رتبة مواطن في آثينا)، فرفضها لشدّة ولائه لفينيقيا، "حتى لا يقال إنّه لم يكن مخلصاً لوطنه". وزينون كان معروفاً أيضاً في فينيقيا، حيث ساهم من ماله الخاص في تشييد الحمامّات أمام المعابد الفينيقية، وزيّنت حائط أحد المعابد لوحة كتب عليها عبارة "زينون الفيلسوف".  

 

ورغم حياته الفائقة، بقي زينون ملتزماً نصيحة الآلهة، فلم يشاهده أحد مبتسماً يوماً، بل راوحت سحنة وجهه بين التقطيب والتفكّر الهادىء. أمّا خارج قاعة الدرس، فكان يبتعد عن الجمهرة ويفضل صحبة قلّة من الناس، ثم يستخدم ما تبقّى من يومه في القراءة والبحث. وفي اللقاءات العامّة، كان يمقت سماع الخطابات الإنشائية الطويلة، ويفضّل النصوص القصيرة المليئة بالتفاصيل فيبقى أثرها في النفوس. وفي فترة تعليمه تخرّج من المعهد الرواقي عدد كبير من الفلاسفة والعلماء. 

 

توفي زينون عام 262 قبل الميلاد، فيكون قد عاش 72 عاماً. وكتب أحد معاصريه (ويدعى ليرتيوس) عن موته أنّ زينون أثناء مغادرته المعهد بعد يوم عمل، تعرقل في سيره فوقع وكسر أصبعاً في قدمه. فضرب الأرض بقبضته وقال كأنّه يخاطب الآلهة: "سآتي سآتي، فلا داعي لأن تناديني". ثم قام بحبس نفَسَه وهو جالس على الأرض فمات من ساعتها. وفي وداعه كتَبَ زملاؤه كلمة جاء فيها: "جئتنا من مسقط رأسك فينيقيا ولم نجد فيك مذمّة. ألم يأتِ إلينا أيضاً قدموس وأعطى اليونان كتبها وفن الكتابة؟" ورغم أنّ زينون لم يكن يونانياً، فشعب آثينا ودّعه باحترام وتقدير وقارنه بقدموس ابن بلده الذي قدّم لليونانين الأبجدية، كما قدّم زينون الفلسفة الرواقية. واعتبره شعب آثينا "أنبل رجال العصر". وتقديراً لتعاليمه ومؤلفاته العديدة وتأثيره في النشأ الجديد وفي أخلاق المجتمع، قّدم ملك اليونان تاجه الذهبي لعائلته ودُفن زينون في مبنى جميل كما أقيم له رأس تمثال من البرونز في آثينا (الصورة). وفي القرن العشرين، أطلقت NASA اسمه على أحد بحار القمر الجافة.    

 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت
لبنان 10/7/2025 1:51:00 PM
في اتصال لـ"النهار" مع وكيل هذه العائلات المحامي محمد حبلص أكد أن ملف هذه العائلات يحظى بمتابعة من الوزير الحجار واللواء شقير "على عكس التجارب السابقة مع مسؤولين آخرين"