ثقافة 13-03-2025 | 21:10

ليالي رمضان في مصر... هل يعزّز المسرح الهويّة ويرتقي بالروحانيات؟

نبعت فنون ناضجة وعروض أدائية وموسيقية من حلقات الذكر والابتهال ومجالس الإنشاد ورقصات الفرق الصوفية ذات الدلالات الإشراقية.
ليالي رمضان في مصر... هل يعزّز المسرح الهويّة ويرتقي بالروحانيات؟
التنورة والعروض الصوفية في مصر.
Smaller Bigger

تتشكل في مصر، خلال أيام شهر رمضان ولياليه الساهرة، حالة خاصة، مشحونة منذ القدم بالتفاصيل والطقوس المتنوّعة، التعبّدية والروحية والاجتماعية والثقافية. 

هو ليس مجرّد شهر ينقطع فيه الناس للصيام، ففي سلوكياته وتمظهراته الشعبية الدالّة مشاهد ولقطات كثيرة متشابكة، تجعله منظومة حياة مكتملة مختلفة عن الحياة الاعتيادية في بقيّة شهور العام.

هذه التابلوهات الرمضانية، المتجذرة في تراث البيئة المحلية والوجدان الجمعي، نشأت تلقائياً على أرض الواقع، وتمدّدت وتعدّدت وجوهها وتمثلاتها عبر التاريخ، ولا تزال حتى اللحظة الراهنة مَعْلماً بارزاً لمصر والمصريين، بفئاتهم وتركيباتهم المختلفة.

ملامح القوّة الناعمة
ليس غريباً أن تحتضن وزارة الثقافة المصرية، والمؤسسة الرسمية عموماً، هذه التجليات الرمضانية جميعاً، بوصفها سمات حضارية وثقافية وفنية متميّزة، ومكوّنات لنسيج الشخصية المصرية بخصوصيتها وتفرّدها، إضافة إلى أنها من ملامح القوة الناعمة المؤثرة داخليّاً والمُشعّة خارجيّاً.

إن حلقات الذكر والابتهال ومجالس الإنشاد ورقصات الفرق الصوفية ذات الدلالات الإشراقية كالتنورة والمولوية، وغيرها من الممارسات التي كانت معروفة في أفنية المساجد وساحاتها، خصوصاً في الحسين والأزهر والقاهرة الفاطمية، نبعت منها فنون ناضجة وعروض أدائية وجسدية وموسيقية، لتُعرض بصيغ معاصرة ومعالجات متفوقة في دار الأوبرا والمسارح المكشوفة والمغطاة.

 

عروض "هل هلالك" الأدائية.

 

هكذا الحال مع ثيمات إبداعية أخرى، تطوّرت بانتقالها من الشوارع والميادين، التي لا يزال المصريون يزيّنونها في رمضان بالفوانيس والأوراق الملوّنة، إلى المسارح المنتشرة في القاهرة والمحافظات المصرية، مثل فن الأراجوز، وعرائس الماريونيت، وعروض السيرة الهلالية، وغيرها.
تحت هذه المظلة، تشهد مصر على امتداد رمضان الجاري، سلسلة من الفعاليات الثقافية والفنية، التي تعكس طبيعة الحياة الاستثنائية في هذا الشهر، وتصل بين الموروث الشعبي القديم، والإبداع الجديد في أحدث إسهاماته.

مبادرة مبتكرة
الأمر المبتكر هذا العام، أن هذه الفعاليات الثقافية والفنية أو "الليالي الرمضانية الكبيرة" التي ترعاها وزارة الثقافة المصرية بقطاعاتها المختلفة ضمن برامج "الخيام الرمضانية" و"هلّ هلالك" و"أهلاً رمضان"، تأتي جميعها هذه المرة في إطار مبادرة كبرى أو مشروع كلي تحت شعار عريض يستهدف تعزيز الهوية وبناء الإنسان والارتقاء بالقيم الروحانية.

هذا المشروع يستند في أغلب العروض التي يقدمها إلى المسرح على وجه الخصوص، باعتبار أن المسرح هو "أبو الفنون"، وأكثرها قدرة على اجتذاب المتلقي، وإقامة علاقة تفاعلية مباشرة معه، والتأثير فيه. 

يعتمد انتقاء العروض، إلى جانب أنها ذات صبغة رمضانية بطبيعة الحال، على ضرورة جمعها بين الجماليات والرسالة، وفق نظريات توظيف الفنّ، أي أن تكون أعمالاً لها أدوار متنوّعة، بحيث تستهدف إحداث تغيير إنساني ومجتمعي، ولا تكتفي بالإدهاش والإمتاع والتسلية.

تلقى الفعاليات حضوراً مقبولاً منذ انطلاقها في القاهرة والأقاليم، خصوصاً أنها مجانية، وتخاطب أفراد العائلة، وتقام في طقس مناسب على مسارح مفتوحة وفي أمكنة محبّبة، مثل دار الأوبرا، ومسارح البالون والجمهورية والسامر، والحديقة الثقافية، وقصور الإبداع الفني والسينما والأمير طاز، ومركز إبداع الطفل، وبيت السحيمي، وقبّة الغوري، ومركز الحرية للإبداع في الإسكندرية، وغيرها.  

 

الإنشاد الديني.

 

تشتمل خريطة الفعاليات، الساعية إلى "خلق بيئة ديناميكية تثري الوجدان المصري، وتعزز الهوية الوطنية، وترسّخ قيم التسامح والمحبّة والتواصل الإنساني، وتجسّد معاني الروحانية والتآخي، وتعكس أصالة مصر وثراءها الحضاري"، وفق ديباجة المشروع الوزاري، على مئات العروض، المستدعاة في معظم الأحوال من التراث، سواء من دون تغيير، أو في قوالب جديدة وصيغ  ملائمة.

من أبرز هذه الفعاليات، مجموعة عروض مسرح "المواجهة والتجوال"، ومسرحيات "البوح" لفريق جوانا و"ليالي الشرق" لفريق سول و"الخيط" لمنصّة آرت سين، وأوبريت "الليلة الكبيرة"، ومسرحيات عرائس الماريونيت، وعروض السيرة الهلالية، وحفلات الإنشاد الديني لياسين التهامي ومحمود التهامي ووائل الفشني، وعروض التنورة والأداء الحركي والموسيقى الروحانية والرقص الصوفي، وعروض الأراجوز وخيال الظل والسيرك القومي، وحفلات فرقة رضا للفنون الشعبية، وغيرها.

الكمّ أم الكيف؟
على مستوى الكمّ، فإن مشروع الليالي الرمضانية الثقافية والفنية يمتدّ إلى سائر المناطق بالفعل، مثلما أراد المخططون له. ويأتي ذلك، بالاتساق مع مشروع آخر انطلق في رمضان الجاري أيضاً بعنوان "الليلة الكبيرة في كل مكان"، يستهدف تمرير أوبريت "الليلة الكبيرة" الأيقوني إلى الأجيال الحالية، عبر إعادة عرضه مسرحيّاً، ومن خلال طرح مستنسخات لعرائس الليلة الكبيرة للاقتناء المنزلي.

ويشكل أوبريت "الليلة الكبيرة" عملاً متفرداً يعبّر عن تراث مصر الثري واحتفالاتها الاجتماعية والدينية. وقد ظهر إلى النور عام 1961، وكتبه الشاعر صلاح جاهين، وصمّم عرائسه ناجي شاكر، وأخرجه صلاح السقا، ووضع موسيقاه سيد مكاوي. ولا يزال يحظى بحضور جماهيري واسع النطاق في المسارح المصرية، ونسب مشاهدات مرتفعة في القنوات التلفزيونية ومواقع الإنترنت.

لقد نجح أوبريت "الليلة الكبيرة" في رمضان الجاري، شأنه شأن عرض العرائس "مملكة السحر والأسرار" للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية، وسائر الفعاليات المسرحية ضمن مشروع الليالي الثقافية والفنية، في تحقيق الغاية بالوصول إلى أكبر عدد من الجماهير التي تقبل على الفعاليات الرمضانية ذات الطابع الاجتماعي والروحاني. 

 

استعراضات التنورة الصوفية.

 

على أن السؤال الأهم يبقى معلّقاً، وهو ذلك السؤال بشأن الكيف أو عمق التأثير المتحقق، ومقدار نجاح البرنامج الوزاري في إنجاز الأهداف المنشودة، وذلك على مستوى القيمة الجمالية المجرّدة، ومستوى تمرير الرسائل المجتمعية في الوقت نفسه.

إلى أيّ مدىً تمكنت ليالي رمضان المسرحية في مصر من إحداث حراك في المشهد، وإثراء الحركة الإبداعية برصيد جديد مغاير يُحسب لها، إضافة إلى القيام بأدوار أخرى تتعلق بإسهام الفن في تعزيز الهوية وبناء الإنسان والارتقاء بالقيم الروحانية؟

في الحقيقة، إن النسبة الأعمّ من هذه الفعاليات تندرج في إطار عروض "الريبرتوار" بشكل أو بآخر، فهي إمّا استعادية على نحو حرفي بمعنى استحضار الأداء السابق ذاته، أو أنها تستلهم أعمالاً أصلية لتعيد إنتاجها بتعديلات ولمسات خاصة تضاف إلى المعالجات والصياغات الحالية.

هكذا، فإن الأثر الأبرز الذي تحققه ليالي رمضان الكبيرة في مصر، ليس توليد انزياحات فنية وتأسيس مدارس وحركات جديدة متطورة، وإنما يتحقق هذا الأثر ببساطة من خلال ربط الحاضر بالماضي، وفتح ذائقة الأجيال الجديدة على نوافذ إبداعية متميزة مستساغة، ذات طابع روحاني إشراقي. 

وربما يصعب القول أيضاً بإمكان اضطلاع مثل هذه الأعمال، والأعمال الإبداعية عموماً، بوظائف غير جمالية تصل إلى حدّ تغيير المجتمع والواقع معاً بضغطة زرّ. ولكن، تبقى للفنّ لمساته بالتأكيد في تهذيب الإنسان وترقية مشاعره وتوسعة مداركه وشحذ طاقته النفسية، ما يجعله في وضعية أفضل. وهذا بحدّ ذاته أمر يُحسب لليالي الرمضانية في مصر، في كثير من وجوهها الخصبة وتجلياتها الجاذبة.

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟