إيتيل عدنان الجميلة النائمة في غيابها الأبدي!
إسماعيل فقيه
إيتيل عدنان،الجميلة النائمة في غيابها الأبدي،لا يغيب نورها،ولا ينطفئ وهج حضورها، رغم كل هذا الغياب الممتد.
رسّامة بعيدة الظلال ، قمرية البقاء، بريشة مغتبطة دائماً، امتلكت ألوان الحياة وما في أعماقها من تلاوين وشدوٍ وحنين وغياهب، زاوجت بين فضول التصوّف وزهد العرفان، وشاعرة عاشقة حتى الجنون.
احتضنت عمرها وضمته الى رحبها النوراني، واحتضنتها المياه والجبال والسهول والطيور، والأزهار، وأسرار الحياة والطبيعة.كأنها كتبت ورسمت خفايا الجنّة الموعودة.

كتبت في ديوانها الأول، في باكورتها الشعرية (كتاب البحر): "أنا أكتب ما أرى، وأنا أرسم ما أنا عليه". استمدت من البحر عشقها، غاصت وسبحت وعامت في مداه الأزرق، زرقة البحر عشقها الأول. تلقّفت روحانيّة الفن، أخذت من ضفاف الأزرق الكبير مناخ متعتها، فشطح الأزرق أكثر في مدى حياتها، وهيمنت الزرقة في فضاء لوحاتها وفي إطارها المفتوح الى آخر الينابيع،اتحاد تام سلس، الشعر والفن، لغة واحدة في قاموسها الإبداعي.
شِعر إيتيل ما كان نغمة عين ورأفة قلب،كان بهجةً قلِقة، حيرة مثقلة بالوعي، لتشخيصٌ معاناة الإنسان، والتخفيف من ضجره ووحدته.
تميزت أعمالها الشعريّة وتجلّت بقصيدتها الطويلة "يوم القيامة العربي" التي صدرت بالإنكليزيّة عام 1998. وقصيدتها "27 أكتوبر" الصادرة بالفرنسيّة على إثر الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وتُرجمتا إلى اللغة العربيّة. وكانت كتبت في منتصفات القرن الفائت عن الثورة الفيتناميّة، وحرب الجزائر وغيرها من المآثر التاريخية التي ألهبت الشعوب وجذبتها وحرضتها على النضال من أجل الحرية.
كتبت عدنان أن "الحب هو الذي يجعلنا ندرك معنى الوجود". لذلك وقفت بوجه الظلم، ناهضت الحروب والانقسامات، ورفعت كلمة الحياة الطيبة لكل الناس . كتبت يوماً، "أنا الضوء/ تكسرني الدقائق/ تأخذني/ كأجراس كنيسة ريفية/ أنا العتمة".

لقصائدها "شكل الروح في المرآة" ومسافة عبور بين الألوان الشعريّة والألوان الفنيّة، بين النور والظلمة. فابتكرت قصائد بصريّة "ضوئية" مزنرة بالألوان الخاصة، فتابعت رحلتها الابداعية، إذ رسمت ودونت معالم رحلتها في عالم الفن والإبداع بكل حريّة مُتجاوزَة عادات أهل الزمان الغابر ، وسكان المكان المتحول.
تجسّد الجمال في لوحاتها ، صوَر الجمال المرئي والخفي، بعد أن تحوّلت الألوان والكلمات إلى إيقاعات تدندن في الروح ورموز ماثلة في أبد المناسبة. ولم تقف أمام المرآة لتتباهى بحيويتها الذكية ، كانت فنانة خاصة تزاول متعتها من وراء ظهر "الدهر المشاكس". إمرأة استثنائيّة وحقيقية وواقعية، ترسم بالقلم العارف والريشه التائهة.
لوحة إيتيل عدنان منارة عشق أبدية تثير فيها أسئلة الذات وأجوبة الأشياء، فاختارت الخطوط والفراغات والأشكال والبياض والألوان المتمادية بوهجها وخفوتها، ومن خلال تركيزها على تناول الألوان الحاسمة ، كالأصفر، والأزرق، والأحمر، والأسود في نشاط وعي مبرم، وحراك بصري متناغم في ذاته وحول ذاته. حاولت ونجحت بجمع اللون ككل وأعادت تفكيكه، فبالألوان تفكّك الحياة والعالم لتعيد صياغته برؤيا فنيّة خاصة ،ونشاط بصريّ جديد.
ومن يتعمق بخصوصيّة اللون في لوحتها،يلحظ تدرّجاته وتحوّلاته الانزياحيّة والتحويلية والتركيبية وكيف تمنح اللوحة صبغتها الخاصة وتفردها.
إن كتابة اللون وصوغه شعريّاً هو ما يميّز أعمالها الفنيّة المزخرفة بالشعر. وقد تمادت بنجاح ملفت، بترقيم سعادتها وفق أصول العد والعدد، فهي مغرمة بالطبيعة، والجبال العاليّة، والغيوم، والضباب والطيور والقرى الصافية والمدن العذراء. الطبيعة هي مركز الصدارة في أعمالها الفنيّة ونشاطها الإبداعي.
ولمن فاته تفحص خصوصية الفنانة، نلفت إلى أن عدنان انفتحت على أغلب الفنون، وبخاصة الفن الياباني، من خلال استعمالها لدفاتر "الأكورديون" مستغلّة فضاءاتها للكتابة الشعريّة والخط والرسم.
ولها العديد من الكتب الفنيّة على الطريقة اليابانيّة التي تمتاز بجماليّة وروحانيّة عاليّة. لذلك جاءت لوحاتها متعددة الأساليب والرؤى الفنيّة. فسعَة خيالها مرتبطة بسعة ثقافتها وخبرتها وموهبتها الفنيّة.

إن ما رسمته وما كتبته وما أنتجته الراحلة في عالم الإبداع هو انعكاس لحبها الكبير للعالم، وانعكاس للطبيعة وتجليّاتها. فكثيراً ما صرحت في حواراتها بأن الرسم هو “الكتابة بلُغة الضاد”.
أحاديث كثيرة للراحلة عبرت فيها عن عميق مودتها للشعر والفن واللون، لم تترك وعياً إلّا وأدركته وحملته في جعبة روحها وقلبها، وقالت يوماً: "الكتابة هي اختراع آخر للحياة يمكن للإنسان بلوغه طالما تمادى بوعيه المفتوح ، غير المحدود ، وطالما عرف كيف يفتح باب الزمن (...) والرسم هو محاولة وقدرة قادرة على اكتشاف الأشياء المقفلة والغامضة والمتعبة (...) الإبداع ليس له حدود نهائية وأخيرة، طالما أنت مع عينك تسهر، سترى ما يلوح في داخلك، وستخرجه الى النور، بطريقتك وأسلوبك وموهبتك".
درست إيتيل عدنان في مدرسة فرنسيّة في بيروت، فكانت الفرنسيّة لغتها الأم. وانتقلت بعدها إلى باريس لمدة ثلاث سنوات، لتسافر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركيّة لاستكمال دراستها. وليس مبالغة القول إنها فنانة متعددة الثقافات واللغات: سوريّة، يونانيّة، لبنانيّة، فرنسيّة، وأميركية. وهذا التعدد والاختلاف هو ما صبغ أعمالها الفنيّة بالعمق والتفرّد، وهي رسّامة مختلفة مجدّدة. فكل لوحة من لوحاتها هي تجربة في حد ذاتها، ورؤية مصدرها الإصغاء إلى الطبيعة، أو إلى قصيدة شعريّة، أو عمل روائي، أو هواجس تسكن الذات وإحساسها الجمالي المرهف، أو معاينة الواقع الرمزي وبراءة الطفولة.
مقامات وقامات وأحوال مختلفة في موضوعاتها وعمقها الجمالي الشعري.
فنها الآني كان بلغة مستقبلية، كشفت وابتكرت وصوّرت وجمعت ونسجت من الخيال كل ما من شأنه أن يفي بغرض حدوثه ودلالته.
إن القصيدة أو الرسمة عند إيتيل عدنان هي نصٌّ بصري يتلاءم مع الحدس الشعري، يستمد جماليته من خصوصية الشاعرة نفسها. شعريّة في الشعر ، وشعريّة في الفن وروحيّته. و كتابها "رحلة إلى جبل تملباييس"، من أدق ما كتبها عن الطبيعة، وعن فلسفتها. وبذلك تنتمي إلى كل الهويّات، والثقافات، والحضارات بأعمالها الفنيّة العابرة للحدود والقارات. كأنها الرمح ادخل بحدّية في جسد العالم فأسمعت النجوم خفق آهاتها.
(ايتيل عدنان)
بمشهدية الصّورة الأولى،وبحسابات البداية والبناء والتعريف والانطلاقة :عاشت عدنان (96سنة ، توفيت2021) ، واليوم أكتملت مئويتها (1925-2025) .
وُلدت ايتيل في بيروت العام 1925 من أب سوري دمشقي (مسلم)، آصاف عدنان قدري، كان ضابطاً في الجيش التركي، وأمّ يونانية (مسيحية) مولودة في أزمير، روز ليليا لاكورتي، وعاشت إيتيل ضمن تنوّع عرقي وثقافي، كان القرآن بجانب الإنجيل في بيتهم. وهي تنقل حروفاً تركية وعربية على دفاترها من دون أن تفهم هذه الحروف. ووالداها يتكلمان مع بعضهما باللغة التركية، وأمها تتكلم معها باليونانية، والناس في بيروت يتكلمون معها بالعربية، وفي مدرستها بالفرنسية في ظل الانتداب الفرنسي على لبنان، ودرست في الجامعة بالإنكليزية، فتحدثت كل هذه اللغات بطلاقة. كانت مزيجاً من دمشقية بيروتية يونانية تركية أميركية فرنسية. ونظمت أولى قصائدها باللغة الفرنسية في سن العشرين، وصارت خريجة جامعات السوربون، ثم بيركلي وهارفرد، ودرّست الفلسفة من العام 1958 ولغاية العام 1972.
نبض