البرليناله، ساحة حرب رمزية!
وفد الفيلم الأوكراني، ”الطابع الزمني“، في برلين 2025.
Smaller Bigger

مهرجان برلين السينمائي، في دورته الخامسة والسبعين (13 - 23 شباط)، لم يكن مجرد منصّة لعرض الأفلام واحتضان شلّة ممّن يعمل فيها صناعةً وبرمجةً وإعلاماً وترويجاً، بل شكل من أشكال الميدان لصراع أوسع بين رؤى متضادة حول دور السينما وحدود تأثيرها، وتبلور هذا في محاذاة الوظيفة الأصلية، الترفيهية والجمالية، المنوطة بها. 

لطالما كان الـ"برليناله" تظاهرة ثقافية مشحونة بالسياسة ومبدأ الانقسامات، لكن مع تأجّج الصراع على أكثر من جبهة (غزة، أوكرانيا، الداخل الألماني، ترامب، الخ)، استولى هذا الجانب على السينما، إلى حد التعتيم عليها أحياناً. في هذا المعنى، تتنافس الأفلام لا فقط على الجوائز، بل على فرض سرديتها الخاصة في عالم تتجاذبه الأزمات. وبالتأكيد، لا يمكن ان يصل إلى شاشات برلين فيلم تتناقض "قيمه" مع القيم التي يدعو إليها المهرجان، لكن لا يزال هناك - ولا نعلم إلى متى يستمر ذلك - مجال لمعاينة أنواع مختلفة من السينما، كلّ منها ينطق بمعتقداته وفق طريقته الخاصة.

 

طاقم عمل ”رسالة إلى دافيد“ مطالباً بالإفراج عن  الممثّل الرهينة دافيد كونيو.

 

بعض الأعمال يسعى إلى استكشاف السينما كفنّ خالص، حيث الشكل والمضمون يندمجان في تجربة جمالية تهدف إلى توسيع حدود الخيال. هذه الأفلام تضع اللغة السينمائية في صدارة أولوياتها، متجاوزةً الرسائل المباشرة والمواضيع المكررة. في المقابل، هناك موجة من الأفلام تتبنّى خطاباً نضالياً واضحاً يتعامل مع الشاشة باعتبارها فضاء للتغيير أكثر من كونها أداة فنية، مقدمةً أجوبة بدلاً من الأسئلة، في استعراض إيديولوجي يصل إلى حدّ الدعاية في بعض الأحيان. وعلى سبيل التذكير: الدعاية تبقى دعاية حتى لو وافقنا على مضمونها! 

القضايا في هذه الأيام، سواء في برلين أو في أماكن أخرى، ليست من لون واحد. هي هوياتية، جندرية، طبقية، عرقية، الخ. من خلالها يُعاد النظر في الثوابت والمسلّمات، وما هو "نهائي" في عقول البعض. الفنّ الصرف سيعاني صعوبات كبيرة للصمود أمام هذا التصعيد غير المسبوق لإعادة ترتيب الأولويات ودحض المفاهيم البالية. 

مع اشتداد الأزمات في فترة ما بعد كورونا، أصبح المهرجان معقلاً للمعسكرين، كأنه يستعيد دوره السابق. انها ساحة حرب رمزية، تتكرس ملامحها أكثر فأكثر مع كلّ دورة، فتصطف الأفلام على جانبي الخنادق السياسية والإيديولوجية، فإما تطرح نفسها كوسيلة تقدمية للتغيير، أو مساحة للتأمل الفني الحر، يكتب عليها الفنان أهواءه من دون ان يكون لها في الضرورة فائدة بالمعنى النفعي للكلمة. 

 

المخرج الصيني جون لي الذي ألقى كلمة أحدثت بلبلة.

 

هذا التوتّر يعود إلى بدايات المهرجان نفسه، الذي نشأ في فترة الحرب الباردة كمشروع ثقافي، الهدف منه إبراز قيم "العالم الحر" في وجه الدعاية الشيوعية. ومع سقوط جدار برلين، لم يختفِ هذا الطابع الجدلي، بل تحوّل إلى منبر للصراعات الفكرية التي تعكس تقلّبات السياسة العالمية.

هذه الدورة حملت معها قضايا سجالية جديدة قديمة، من صعود التيارات القومية في أوروبا، إلى النزاعات الجيوسياسية، مثل الحرب في أوكرانيا والصراع على غزة. بعض الأفلام يتعامل مع هذه القضايا بحساسية وعمق، ولا تنسى اننا داخل صالة لا في قاعة محاضرات لتلقّي الدروس، بينما أخرى تبدو أشبه بمناشير سياسية مغلفة بلغة بصرية متواضعة.

في دورته التي انتهت قبل أيام، وجد مهرجان برلين نفسه مرة أخرى في قلب العاصفة، وذلك بعد اختياره أفلاماً تم تحميلها أعباء عقائدية وسياسية. من بينها: "رسالة إلى دافيد" للمخرج الإسرائيلي توم شوفال. الفيلم يعيد إحياء قصّة دافيد كونيو، الممثّل الإسرائيلي الذي اختُطف في السابع من تشرين الأول. دمج شوفال لقطات قديمة له من فيلمه السابق "شباب"، مع لقطات جديدة. لكن هذه المعالجة أثارت انتقادات البعض التي اعتبرت الفيلم منحازاً بشكل فج، وطاولت إدارة المهرجان نفسه لاختيارها هذا العمل. رأى كثيرون أن تقديم فيلم يعرض الحرب في غزة من زاوية إسرائيلية، من دون موازنة ذلك بسردية فلسطينية، يعكس اتجاهاً أحادياً في البرمجة، يتماشى مع المناخ السياسي الألماني الذي أصبح أكثر تشدّداً تجاه أي طرح ناقد لإسرائيل. دافع منظّمو المهرجان عن خياراتهم باعتبارها تستند إلى معايير محض فنية وسينمائية، لكن المنتقدين يرون أن هذه المعايير نفسها مسيسة بطبيعتها، وأن بعض الأفلام يمرَّر تحت ستار "الفنّ"، بينما هي في جوهرها إنتاجات دعائية موجّهة بعناية لتعزيز سرديات معينة.

 

”الطابع الزمني“، فيلم عن تأثير الحرب الأوكرانية الروسية في الأطفال.

 

المهرجان، الذي لطالما تباهى بكونه منصّة لحرية التعبير والنقاش المفتوح، وجد نفسه يتعرض لانتقادات من الجهتين، وانتهى به الأمر محاصراً بين نيران متقاطعة. المفارقة أن الهجوم جاء من كلا الجانبين: فالبعض اتّهمه بالترويج للرواية الإسرائيلية، فيما رآه آخرون متواطئاً مع "خطاب الكراهية المعادي للسامية". والحدث الذي ساهم في تفجير الجدال، هو صعود المخرج الصيني جون لي على خشبة المسرح، خلال عرض فيلمه "كويربانوراما"، ليقرأ بياناً نارياً للممثّل الإيراني عرفان شيكاريريز، الذي قرر مقاطعة المهرجان احتجاجاً على "انحياز ألمانيا لإسرائيل". في كلمته التي قرأها المخرج، شنّ هجوماً على الدولة العبرية، متّهماً إياها بارتكاب "مجازر في حقّ المدنيين"، قبل أن ينهي خطابه بشعار "من النهر إلى البحر"، وهو ما فجّر القاعة غضباً. بعض الحاضرين قاطعوه بصيحات الاستهجان، فيما تهكّم آخرون على "مخرج صيني يعظ الآخرين عن الديموقراطية"! لكن العاصفة الحقيقية جاءت من الخارج، حيث تحوّل الأمر بسرعة إلى قضية سياسية. وسائل الإعلام الألمانية شنّت حملة شعواء، معتبرةً أن التصريحات "تحريض مباشر للقضاء على إسرائيل". السلطات لم تتأخّر في التدخّل، وسارعت إلى فتح تحقيق رسمي عبر جهاز الأمن السياسي في الشرطة، ممّا يعكس بوضوح التشدّد الألماني تجاه أي خطاب مناهض لإسرائيل، رغم ان التظاهرات الداعمة لفلسطين يومية. أما إدارة المهرجان، التي اختارت النأي عن النفس، فقد حوصرت بين نارين. وبينما تسوّق ألمانيا نفسها كدولة تدعم الحريات، يظهر هذا الحدث مدى التضييق على أي رواية لا تتماشى مع السياسات الرسمية.

لم تقتصر الحرب الروسية الأوكرانية على جبهات القتال. منذ نشوبها قبل ثلاث سنوات، فالأفلام التي أُنجزت عنها لا تُعد ولا تُحصى، بعضها عُرض في برلين. لكن لم يسبق لأي منها ان دخل المسابقة، كما حدث هذا العام مع "الطابع الزمني" للمخرجة الأوكرانية كاترينا غورنوستاي، الوثائقي الوحيد الذي تسابق على "الدبّ الذهب". الفيلم ليس مجرد تسجيل للحرب في أوكرانيا، بل رؤية مغرقة في التفاصيل اليومية لعواقب الحرب على الجيل الجديد. بدلاً من تصوير الدمار المباشر، اختارت المخرجة أن تكشف عن التأثير النفسي العميق الذي يعيشه الطلاب والأساتذة داخل المدارس الأوكرانية في زمن الحرب. صحيح ان العمل مشغول بصنعة عالية ومناقبية توثيقية، وفيه شيء من اللغة السينمائية، لكن سنوات ضوئية بينه وبين بعض الأفلام الروائية داخل المسابقة، ولا فرق كبيراً في عرضه من عدمه، لا سينمائياً ولا سياسياً، وذلك بسبب تأثيره المحدود. غورنوستاي قدّمت وجهة نظرها عبر مشاهد بسيطة محمّلة الكثير من الألم: طلاب يتعلّمون في ملاجئ، مشاهد دراسية تجري وسط الأنقاض، ولحظات تخرّج تتحوّل إلى احتفالات تفوح منها رائحة الموت. 

 

المخرج توم تيكفر مع ممثّليه.

 

بالتأكيد، لم يكن اختيار هذا الفيلم في مهرجان برلين مجرد قرار فنّي محض، بل رسالة سياسية واضحة. المهرجان لطالما أيّد رواية أوكرانيا في صراعها ضد روسيا. بعض النقّاد أثنوا على الموقف، لكن آخرين اعتبروا أن المهرجان يتبنّى رواية ذات بُعد سياسي، مغلقاً الطريق أمام أي خطاب محايد أو منصف.

في الدورة الفائتة، امتدت أيضاً أصداء التحولات السياسية العميقة في ألمانيا إلى المهرجان، وذلك عشية الانتخابات التشريعية الألمانية التي أوصلت تكتّل المحافظين إلى الحكم. هانا شيغولا، الممثّلة الألمانية ذات الـ82 عاماً، استغلت مشاركتها في المؤتمر الصحافي الخاص بفيلم "يونان" لأمير فخر الدين (فيلم من الشرق الأوسط وعنه، يتفادى ان يكون نشرة أخبار عنه)، لتحذّر من الخطر المتصاعد لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف. في كلمتها، أكّدت أن البلاد على حافة تكرار الأخطاء القاتلة التي شهدها التاريخ الألماني، إذا استمر هذا الحزب في صعوده. رسالتها لم تمر من دون ردود أفعال متباينة، اذ وجد البعض فيها دعوة ضرورية لليقظة السياسية، بينما اعتبرها آخرون مجرد لعبة إعلامية يسارية تهدف إلى "إرهاب الرأي العام“.

 

رادو جود يحذّر من عودة النازية!

 

جاء هذا، كصدى بعيد لعرض "الضوء" للألماني توم تيكفر افتتاحاً، الفيلم الذي يروي قصّة لاجئة سورية تسعى للاندماج في المجتمع الألماني. استُقبل الفيلم ببعض الإشادات، لكنه أثار أيضاً انتقادات، فهناك مَن اعتبره "قوة ناعمة" لسياسات الحكومة الألمانية في مجال الاندماج، وهناك من رأى فيه مقاربة ساذجة لمحنة اللاجئين. وقوف المهرجان في صفّ القيم الإنسانية، لم يحل دون تحوله إلى أداة متقلّبة بين القوى السياسية المتصارعة والاصطفافات الإيديولوجية. 

في النهاية، يبقى الأهم، كما قال المخرج الروماني رادو جود، وهو يتسلّم جائزته ليلة الختام، ألا يفتتح برلين 2026، بـ"انتصار الإرادة" لليني رييفنشتال، فيلم الدعاية النازية الذي شكّل لحظة سينمائية نافرة عقائدياً، ولكن مبهرة فنياً وتقنياً.

 

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت
لبنان 10/7/2025 1:51:00 PM
في اتصال لـ"النهار" مع وكيل هذه العائلات المحامي محمد حبلص أكد أن ملف هذه العائلات يحظى بمتابعة من الوزير الحجار واللواء شقير "على عكس التجارب السابقة مع مسؤولين آخرين"