المطر (1): "تنهمر الأمطار لأنّها خُلقت لذلك"

ثقافة 26-02-2025 | 13:41

المطر (1): "تنهمر الأمطار لأنّها خُلقت لذلك"

ليس المطر مجرّد صوت أو مشهد، بل جزء من نسيج حياتي، إستحضار لأماكن ووجوه وأزمنة لم تبتعد حقًا
المطر (1): "تنهمر الأمطار لأنّها خُلقت لذلك"
Smaller Bigger

ليليان يمين

 

رغم نومي القلق لكن عندما تمطر أراني أسترخي في النوم كأنّ المطر يمنحني غطاءً من السكينة وسط القلق. ألمطر لا يهطل فقط على الأرض، بل يغسل الضجيج الداخلي أيضًا. ربما لهذا يشعر البعض وأنا منهم بالهدوء عند سماعه، لأنّه يخلق انسجامًا بين الداخل والخارج.

 

ليس المطر مجرّد صوت أو مشهد، بل جزء من نسيج حياتي، إستحضار لأماكن ووجوه وأزمنة لم تبتعد حقًا. طالما كان دعوة لأمي كي تسير نحوه، تتركه يبلّلها قليلا دون خشية، أجسادنا اليافعة بين خيوطه في طريقنا إلى المدرسة، وتلك التهويدة الخفيّة ليلاً على دفّ التوتيا عند باب غرفتنا الخارجي.

 

حين يشتدّ ثقل البشر، يتدخل المطر بلطف، يغسل الأرض، كأنّ المطر يجيء ليطفئ الأحقاد، ليعيد التوازن.

 

ألمطر يغسل الأرض، لكنّه لا يغسل القلوب إلا لمن أراد أن يُغسل. ألمطر يمنح الفرصة، لكنّه لا يفرض التغيىر. وأحيانًا، هذا الهدوء الداخلي هو كل ما نحتاجه. ليس بالضرورة أن يتغيّر الآخرون أو أن يزول الحقد، يكفي أن نشعر نحن بأننا لسنا جزءًا منه. ألمطر لم يغيّر العالم، لكنّه يمنحك لحظة من الصفاء وسطه وهذا بحدّ ذاته انتصار صغير.

 

نعم، فالحياة ليست سوى سلسلة من هذه الإنتصارات الصغيرة، التي تمنحنا القدرة على الإستمرار. لحظة هدوء، لمسة دفء، كلمة صادقة، صوت المطر… كلّها انتصارات خفيّة، لكنّها تصنع فرقًا. وجه حبيبي عندما يضحك،

إنتصار دافئ جدًا، وكأنّك ترسم لحظة من النور في عينيه فترى أثر وجودك في ضحكته. ربما هذه هي الإنتصارات التي تبقى فعلًا، أكثر من أي شيء آخر.

 

ليس في  يقين المطر أنّه مغادر لذلك لا يلتفت إلى الوراء، يأتي بكامل حضوره، لكنّه لا يبقى. وكأنّه يعرف دوره جيدًا: أن يمرّ، أن يروي، أن يترك أثره دون أن يتشبث بالبقاء. ربما لهذا لا يلتفت، لأنه ليس من طبيعته التوقف عند ما مضى. يذهب سريعًا، لكنه يعود دائمًا، ولو بشكل آخر. وكأنّ فيه وعدًا خفيًا بأن لا شيء يضيع بالكامل، حتى لو بدا أنه يتلاشى.

 

 لا يسأل المطر إن كان سيُفهم، لكنّه يهطل بكل بساطة، يؤدي دوره ثم يختفي ليعود من جديد. ربما في هذا يكمن السرّ… أن نستوعب أن بعض الأشياء تحدث لأنّها يجب أن تحدث، دون حاجة للشرح أو التبرير.

 

تمامًا، كأنّ المطر يعلّمنا أنّ الرحيل ليس دائمًا خسارة، بل جزء من دورة الأشياء. لا يتحسّر على الأرض التي تركها، ولا يخشى التلاشي، لأنّه يعرف أنه سيعود بطريقة ما، في مكان ما. هناك دوماً ضوء، لأننا نعرف أنه سيأتي حتمًا، كما تأتي الأشياء الحقيقية في وقتها. ربما لو قبلنا ذلك، لخفّ ثقل الفقد في حياتنا.

 

تنهمر الأمطار يا سادة  لأنّها لا تعرف غير ذلك، وكأنّها تمارس حقيقتها دون تردد، بلا حاجة للتبرير أو التغيير. تنهمر لأنّها خُلقت لذلك، ولأنّها تعرف أنّ في انهمارها حياة. ربما لو فهمنا ذلك، لعشنا نحن أيضًا كما نحن، بلا خوف من أن نكون ما نحن عليه.

 

على زجاجي شوق

يهطل ويهطل دونَ توقف،

مطر أوّل فبراير.

 

صقيعٌ هشّ

سرعان ما تبدّده

بحّة صوتك.

وسط الساحة،

تمثال يوسف بك كرم

يشهر سيفه على الريح.

 

وجهها عتمة،

نسيمها دافئ

قهوتي.

 

في الغابة هو همسُ الطبيعة أما في المدينة، هو شاعرية الضوء والظلال. لكن في كل الأحوال، يبقى المطر هو المطر، يحمل إحساسه أينما نزل. وكأنّه لا ينتمي إلى مكان واحد بل إلى كل الأماكن في آنٍ معًا. حين تراه في المدينة، قد تتخيّله يهطل فوق غابة بعيدة، وحين يكون في الغابة، قد تتخيّله ينعكس على شوارع مرصوفة بالحجارة. ربما لهذا يحمل دائمًا شيئًا من الحنين، لأنه يذكّرنا بما هو هنا وما هو هناك في نفس الوقت.

 

ذلك الحنين الذي لا يرتبط بمكان محدد، بل بشيء غير ملموس، بشيء ربما لم نعشه بعد لكنه يسكن فينا. كأنّ المطر يوقظ ذلك الشعور، يفتح نافذة نحو المجهول، نحو أماكن لم نزرها وزمن لم نعشه، لكنه مع ذلك يبدو مألوفًا… كأنّه كان ينتظرنا هناك منذ البداية. لأنّه يحمل في طبيعته دفقًا لا يُقاوَم، شيئًا لا يأتي مترددًا بل ينهمر بغزارة، لهذا نقول "أمطار الشوق" عندما يكون الشوق جارفًا، و"أمطار الذكريات" عندما تتدفق الذكريات بلا توقف

 

لا يأتي المطر وحيدًا، بل يصحبُ معه فيضًا من المشاعر، كأنه استعارة لكل ما لا يمكن كَبْته أو حَصْره.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت