
الغلاف
في رواية "يوم الجرو" للكاتب السعودي محمد الحارثي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، تشكّل الكوابيس فرصةً للكشف عن سرٍّ كبته مقدّم البرامج الإذاعية عصام الكحلاوي، لأربعين عاماً، حتى إذا ما باح به، يتحرّر من الكوابيس، ويتخفّف من شعور بذنب لم يرتكبه أصلاً، بل كان على تماس مع مرتكبه.
يحيل ذلك السرّ إلى عالم مرجعي تشكّل الحاجات العضوية جزءاً من الحياة اليومية فيه، لا سيّما الجنس منها، فيتمظهر في الرواية، من خلال انشغال الشخوص به، وتحريكه الأحداث، وتوجيهه المسارات والمصائر، والمعجم اللغوي المستخدم مفردات وتراكيب.
وبذلك، يغوص الحارثي في حقل ممنوع، ويبدي جرأة واضحة في اقتحام المسكوت عنه في العالم المرجعي المختص، ما يطبع روايته بواقعية صارخة، تسمّي الأشياء بأسمائها، وتتوخّى المباشرة في روي الأحداث التي تدور في قرية متخيّلة، تشكّل الأساطير والخرافات جزءاً من معتقداتها الشعبية، وتؤثّر في سلوك أهلها وخياراتهم. فهم يؤمنون بالجنّ، ويتعاطون الطبّ الشعبي، ويتداوون بالشعوذة والسحر، ما يجعلنا إزاء فضاء ريفي، شعبي، غرائبي، تنخرط فيه شخوص غريبة، وتقوم بتصرفات شاذّة. هكذا تتمظهر الغرائبية في الشخوص والأحداث، على حدٍّ سواء.
هاجس الجنس
في هذا الفضاء، يشكّل الجنس هاجساً يشغل الناس، ويتحكّم بسلوكياتهم، إلى حدٍّ كبير؛ فالفتى ميمون الجبل يفاخر ببلوغه المبكّر، ويستعرض فحولته أمام أقرانه، فيكشف لهم عن شعر إبطه وعانته، ويستمني أمامهم، ويتنمّر عليهم، ويسخر من تخنّثهم.
والفتى الآخر عصام الكحلاوي يشغله اختفاء عضوه الجنسي المفاجئ، فيستعين بقرينه ميمون لاستعادته، ويعمل بنصيحته فيزور بيت الجعرة، البعيد عن القرية، الذي يكتنفه الغموض، وتنسج حوله الإشاعات، ويخشى الجميع الاقتراب منه، حتى إذا ما أتيح له التلصّص على علاقة حميمة داخل البيت، يعود العضو المختفي إلى الظهور مجدّداً.
ورعناء الضبعة، صاحبة البيت، تمارس الطبّ الشعبي، وتكتب الأحرزة، وتعالج النساء بالشعوذة والسحر، وتعطيهم من دخان جيلان زوجها الجني المزعوم. وابنها عقاب الضبع ميكانيكي فاشل، ضامر العضو، ولعلّ هذا ما حدا بزوجته خيرية إلى هجرانه.
غزالة، الزوجة الثالثة للرجل الغني غالب الفردوسي، تعاني الحرمان الجنسي لكبر زوجها وإصابته في ظهره، وهي المهرة الجموح التي تحتاج إلى فارس يروّضها، فتلجأ إلى عقاب الضبع الذي "يحكّ لها روحها" ويستمني أمامها، حتى إذا ما حملت وافتضح أمرهما، يقوم الزوج النافذ بسجنهما بتهمة الزنا، ليتبين لاحقاً أن الجنين هو ابنه، وأنهما بريئان من التهمة المنسوبة إليهما. والفتى سمارى ينخرط في علاقة مع الميكانيكي الهندي عبد السلام. ناهيك بعلاقات مثلية عابرة ترد الإشارة إليها في الرواية. وبذلك، نكون إزاء مجموعة من الشخوص الغريبة، والسلوكيات المنحرفة، الناجمة عن الانشغال بالهاجس الجنسي.
شبكة علائقية
هذه الشخوص وغيرها تنخرط في شبكة علائقية، تتعدّد فيها أنماط العلاقات وتختلف باختلاف المتعالقين؛ وعليه، قد تمزج العلاقة بين الرفقة والصراع (ميمون/ عصام)، أو تجمع بين الصداقة والتبعية والخوف والابتزاز (فياض/ عصام)، أو تقوم على المشاكسة والتنابذ والأمومة (رعناء/ عقاب)، أو تُجاوِر بين العقوق والأبوّة (عقاب/ فياض)، أو يجتمع فيها التحدّي والخضوع (الزيني / رعناء)، أو تُبادِل بين اللذّة والمال (عقاب/ غزالة)، أو يجتمع فيها الخداع والحاجة (رعناء/ النساء)، أو يختلط فيها الحب والمصلحة (وضحا/ فياض)، وغيرها من الأنماط.
ولعل الفضاء الروائي البدائي، الغرائبي، المختلف لا يشكّل بيئة حاضنة لعلاقات سوية بين الشخوص المختلفة، لا سيّما أنّ لكلٍّ منها أعطابه ومساره العاثر ومصيره القاتم.
واقعية غرائبية
هذه النقاط، على أنواعها، تندرج في خطاب روائي، يصطنع فيه الكاتب روائيين اثنين مشاركين لحكايتها؛ الأوّل عصام الذي ينهض بالدور الأساسي في عملية الروي، والثاني طيري الشاهد على الأحداث الذي يستضيفه الراوي الأوّل في الحلقة الإذاعية المخصّصة لفياض.
وتكمن وظيفته في إكمال النقص، والإجابة عن الأسئلة، وتفسير الغامض، والإضافة والتعقيب على المروي. أي أنّ دوره ثانوي ومكمّل لدور الأول، وحضوره يقتصر على استدعائه من قبل الأخير، ما يفسّر صغر مساحة الروي العائدة له في الرواية.
وهذا التفاوت في المساحة ينطبق، بطبيعة الحال، على السرد والحوار، فيشغل الأول المساحة الأكبر ويتّسم بالرشاقة والسيولة، ويشغل الثاني المساحة الأصغر ويستخدم العبارات القصيرة ويتّسم بالسجالية والتوتر، في بعض الأحيان. والسرد والحوار كلاهما يتمّ بلغة صريحة ومباشرة تسمّي الأشياء بأسمائها، وتستخدم الشتائم والسباب، وقد تلجأ إلى التكنية، في بعض الأحيان، في التعبير عن العملية الجنسية ومتعلّقاتها.
وعليه، نكون في "يوم الجرو" إزاء واقعية صارخة، وغرائبية واضحة، ما يجعل الرواية تجمع بين نقيضين، في إطار من التكامل. ونكون أمام روائي جريء، لا يتورّع عن الحرث في حقل الممنوع، والكلام في المسكوت عنه، ويلبّي حاجة القارئ إلى التلصّص على المتواري خلف الجدران العالية.
الأكثر قراءة
ثقافة
10/17/2025 6:10:00 AM
تُعدّ المقاهي الشعبية البيروتية مرآة دقيقة لتحوّلات المشهد الاجتماعي والثقافي للمدينة (1950–1970).
ثقافة
10/17/2025 6:15:00 AM
هذا المشروب الساحر لا يمكن تخيّله منفصلًا عن الشعور بالمشاركة وتحسين المزاج والحب.
ثقافة
10/17/2025 6:17:00 AM
المقهى.. أكثر من مجرد قهوة: تجربة حياة كاملة
ثقافة
10/17/2025 6:12:00 AM
كان الـ "هورس شو" في بناية المرّ قاطرة القافلة التي ضمت مقاهي الـ "إكسبرس" في بناية صباغ، و"مانهاتن" في بناية فرح، ثم مقاهي "نيغرسكو" و"ستراند" و"الدورادو" و"كافيه دو باري" و"مودكا" و"ويمبي" وغيرها.