كيف نجت ملحمتا هوميروس بعد سقوط اليونان القديمة؟

ثقافة 15-02-2025 | 12:29

كيف نجت ملحمتا هوميروس بعد سقوط اليونان القديمة؟

من اللفائف إلى أولى المطبوعات، رحلة طويلة خاضتها ملاحم هوميروس للبقاء حيّة في ذاكرة الأدب العالمي.
كيف نجت ملحمتا هوميروس بعد سقوط اليونان القديمة؟
نقش على ناووس وُجد في مدينة صور، يصوّر بريام يستجدي أخيل ليستعيد جثة ابنه. (المتحف الوطني في بيروت)
Smaller Bigger

تُعدّ ملحمتا الإلياذة والأوديسة لهوميروس من أبرز الأعمال التي نقلت أفكار الحضارة اليونانية إلى العالم، وأصبحتا الأساس للأدب الغربي.

ألّف هوميروس العملين في أواخر القرن الثامن أو أوائل القرن السابع قبل الميلاد، ويحتويان على عناصر محفوظة من العصر الذي سبق انتشار الكتابة. ويقدّر المؤرخون أنهما دُوِّنتا فعليّاً في منتصف القرن السادس قبل الميلاد.

دور مكتبة الإسكندرية
عندما أُنشئت مكتبة الإسكندرية في مصر عام 284 ق.م، أُطلق مشروع ضخم لتحرير جميع مخطوطات هوميروس لكلّ من الإلياذة والأوديسة بهدف إنتاج النص المثالي لهما، وفق ما أورد تقرير لـ"غريك ريبورتر".

كانت مكتبة الإسكندرية الكبرى واحدة من أكبر وأهم المكتبات في العالم القديم، وبفضل جهود ملوك البطالمة والتمويل الذي خصصوه لها، تمكنوا من جمع ما بين أربعين ألفاً إلى 400 ألف مخطوطة قديمة.

زينودوتس الأفسسي: أول محرّر لملاحم هوميروس
كان زينودوتس الأفسسي أول أمين لمكتبة الإسكندرية، وهو نحوي وناقد أدبي يوناني، لكنه كان قبل كلّ شيء عالماً متخصصاً في هوميروس وأول من قام بتحرير ملحمتيه.

 

هوميروس ودليله (1874) بريشة ويليام أدولف بوغيرو. (تفصيل - متحف ميلووكي للفنون)

 

كان زينودوتس تلميذاً لفيليتاس الكوسي، وعيّنه بطليموس الأول سوتير، أحد قادة الإسكندر الأكبر وخلفائه، مديراً لمكتبة الإسكندرية وأستاذاً رسميّاً لأبناء العائلة الملكية. عمل إلى جانبه في المكتبة كلّ من ألكسندر الأيتولي، الذي كان مسؤولاً عن تحرير أعمال الكتّاب التراجيديين، وليكوفريون الكالسي، الذي أشرف على الكتّاب الكوميديين.

كُلِّف زينودوتس بمهمّة تحرير أعمال هوميروس والشعراء الملحميين الآخرين، وربما بعض الشعراء الغنائيين. قام بجمع ومقارنة المخطوطات المختلفة لهوميروس، ويشير تقرير "غريك ريبورتر" إلى أنّ "حذف الأجزاء المشكوك فيها، وأعاد ترتيب بعضها، وأجرى بعض التعديلات، كما كان أول من قسّم الإلياذة والأوديسة إلى أربع وعشرين كتاباً لكلّ منهما، مما جعلها أول نسخة نقدية لهاتين الملحمتين العظيمتين".

انتقادات لزينودوتس
على رغم أهمّية عمله، تعرّضت النسخة الأولى التي حرّرها زينودوتس لانتقادات شديدة من بعض خلفائه وعلماء لاحقين، إذ اعتبرها البعض ذاتية للغاية، واتّهمه آخرون بإجراء تعديلات تعسّفية أو بعدم امتلاكه معرفة كافية باللغة اليونانية.

 

أرسطو يتأمّل تمثالاً نصفيّاً لهوميروس (1653) بريشة رامبرانت. (تفصيل - متحف المتروبوليتان)

 

 

من أبرز منتقديه كان أريستارخوس الساموثراكي (217 ق.م - 145 ق.م)، الذي كان أيضاً عالماً في شعر هوميروس، فقام بتنقيح عمل زينودوتس وأصدر نسخته الخاصة من الإلياذة والأوديسة. تبعه علماء آخرون استمروا في مراجعة أعمال زينودوتس، لكن في القرن الثالث الميلادي، دُمِّرت مكتبة الإسكندرية، وضاعت معها كنوزها.

مخطوطات هوميروس إلى الغرب
بعد نحو ستة قرون، تأسّست مكتبة عظيمة أخرى لحفظ التراث الأدبي لليونان القديمة، وهي المكتبة الإمبراطورية في القسطنطينية، التي أنشأها الإمبراطور قسطنطين الثاني (337 م - 361 م) لحماية معارف اليونان وروما.

كان من أولويات الإمبراطور إنقاذ المخطوطات النادرة لهوميروس وأعمال العصر الهلنستي. وبسبب تآكل البرديات التي كانت تُكتب عليها المخطوطات القديمة، جرى نقلها إلى الرقّ (البرشمان) للحفاظ عليها.

ويُقدَّر أنّ المكتبة الإمبراطورية في القسطنطينية احتوت على أكثر من مئة ألف مجلّد من النصوص القديمة، وكان يُقال إنّها تضمّ لفافة من نص هوميروس بلغ طولها 120 قدماً.

عصر النهضة وإعادة اكتشاف هوميروس
خلال العصر الذهبي للإمبراطورية البيزنطية، كانت اللغة اليونانية قد نُسيت في الغرب، ولم يكن هناك الكثير من الناطقين بها لقراءة أو تدريس أعمال هوميروس. ومع ذلك، كان الناس في أوروبا الغربية يعرفون الإلياذة والأوديسة بصورة غير مباشرة من خلال الإشارات إليها في كتابات الرومان، كما تأثّر بها الشاعر فيرجيل في ملحمته الإنيادة.

 

تأليه هوميروس (1827) بريشة جان أوغست دومينيك آنغر. (متحف اللوفر)

 

لم يبدأ الغرب في فهم نصوص هوميروس الأصلية إلا في القرن الرابع عشر، حين أدرك شعراء مثل جيوفاني بوكاتشيو وفرانشيسكو بتراركا أنهم لن يفهموا المعاني الحقيقية لقصائده إلا إذا قرأوها بلغتها الأصلية.

وفي القسطنطينية، اكتشفوا مخطوطة لأعمال هوميروس وأخذوها إلى الغرب. هناك استعانوا بعالم يوناني يُدعى ليونتيوس بيلاتوس، يُعدّ من أوائل رواد الدراسات اليونانية في أوروبا الغربية، لترجمتها إلى اللاتينية.

أقنع بوكاتشيو بيلاتوس بالبقاء في فلورنسا لترجمة أعمال هوميروس بالكامل وتعليمه اللغة اليونانية. وأمضى بيلاتوس أكثر من عامين في فلورنسا، وبحلول عام 1369، اكتملت ترجمة الإلياذة والأوديسة إلى اللاتينية، مما أتاح لشعوب أوروبا الغربية الناطقة باللاتينية قراءتها، وهو ما أسهم في تشكيل الفكر الأدبي خلال عصر النهضة.

سقوط القسطنطينية والطباعة
بحلول القرن الخامس عشر، ومع ذروة عصر النهضة، أصبح عدد متزايد من الناس في أوروبا قادرين على قراءة أعمال هوميروس بلغتها الأصلية.

لكن في أيار/مايو 1453، سقطت القسطنطينية بيد العثمانيين، ودُمِّرت مكتبتها، بما في ذلك محتوياتها النفيسة من المخطوطات القديمة. ولذلك، أصبحت مبادرة بوكاتشيو للحفاظ على أعمال هوميروس ذات أهمية أكبر.

ومن المفارقات أنه بعد سنوات قليلة فقط، في خمسينيات القرن الخامس عشر، اخترع يوهانس غوتنبرغ آلة الطباعة، مما ساعد على نشر أعمال هوميروس بشكل أوسع.

وأخيراً، في عام 1488، طُبعت ملحمتا الإلياذة والأوديسة لأول مرة في إيطاليا، ليتمكّن العالم بأسره من قراءتهما، ممّا ضمن استمرار تأثيرهما العميق في الأدب والفكر الغربي حتى يومنا هذا.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/10/2025 6:25:00 AM
تحاول الولايات المتحدة تذويب الجليد في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية من خلال "الديبلوماسية الاقتصادية"
تحقيقات 12/10/2025 8:10:00 AM
يعتقد من يمارسون ذلك الطقس أن النار تحرق لسان الكاذب...
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:38:00 AM
على خلاف أغلب الدول العربية، لم يحدث أي اتصال بين تونس ودمشق، ولم يُبادر أيٌّ من البلدين بالتواصل مع الآخر بشكل مباشر أو غير مباشر.
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:44:00 AM
الرغبة الجامحة لدى البابا في زيارة الجزائر قابلتها العديد من التساؤلات حيال الخلفيات التي جعلته يولي هذا الاهتمام ببلد عربي أفريقي لم يذكر غيره بهذا الزخم المعرفي من قبل.