"عيون الزا" ترجمة فارس يواكيم... قبلةُ شعرية لعشاق الشعر والحبّ!

بين يديّ ثلاث مواد لكتابة موضوع واحد، محدّدٍ في الظاهر. شخصي وعام. ذاتي وإنساني مطلقاً. ارتبط بتاريخ الإنسان منذ وجوده، وكان سبباً في طرده من الجنة. وفي ديانة أخرى يوجد في أصل "الخطيئة الأولى".
وعند بعض الفلاسفة إشكاليّ وتراجيديّ ومنتهى المستحيل. ثلاثتُها لمناسبة واحدة، هي ما اتفق قسم من البشرية على تسميته والاحتفال به سنوياً بعنوان "عيد الحب"، يُطلق عليه في أوروبا الغربية Saint Valentin يتهادى المحبون فيه بينهم ويتحابوّن، الأهم إشعالُ هذه العاطفة أو تأجيجُها وإما استخراجُها من تحت رماد رتابة الأيام. لن أخوض في المرجعية التاريخية لهذا الحفل الطقوسي كشعيرة وجدانية مرادي آخرُ أهم.
إنه الحبّ، ولكن، ليس العادي، وإنما الذي يخترق الشِّغافَ وينتقل إلى صعيد التجلّي والتسامي بالقول الفني، بالشعر تحديداً، ونحن العرب روادٌ، هو ديواننا الكبيرُ منذ الجاهلية مروراً بجميع العصور إلى نهايات القرن العشرين، نملك منه تراثاً بليغاً وفتّاناً. الغزليّ غرضا مختصّاً، عذريّاً وماجِناً، كان، أو تخلل جُلَّ نظمنا لا تكاد تخلو منه قصيدة، لا يتسع المجال لذكر الأمثلة والشواهد، منها" مصارع العشاق" حسبُنا منا" مجنون ليلي" يُحتذى.
المادة الثانية لموضوعي هي الحب المتفاني الذي عاشه لويس أرغون (1897ـ1982) الشاعر الفرنسي ذو الانتماء الشيوعي، والعمدة إلى جانب أندري بروتون (1896ـ1966) للحركة السوريالية.
حُبُّه لامرأة ذاعت شهرتها حبيبةً محبوبةً أكثر منها كاتبة وروائية، هي إلسا تريولي (1896ـ1970)Elsa Triolet الروسية الأصل، التقاها أرغون في باريس، وتحديداً في مقهى لاكوبول في حيّ مونبرناس سنة 1928 وترافقا عشر سنوات في علاقة أدبية وعامة، ثم اقترن بها عام 1939 وبقيا زوجين إلى رحيلها ولم يرحل حبه لها. كان وبقي عمادَ وجوهر وجود حياتيٍّ وإبداعي. ولإن كان للعرب قيس بن الملوِّح، فلفرنسا، والغرب عموماً، مجنون إلسا، هو نفسه استلهمه، يُغنّي الكبار قصائده ويحفظ التلاميذ شعره عن ظهر غيب، يتهجون فيها نبضات الحب الأول تخفق بها أفئدة بريئة.
المادة الثالثة، هي بيت قصيد هذا الموضوع، إنها الترجمة العربية الجديدة لديوان أراغون. ولعلّ ما ذكرناه سابقاً عنه هو ما دفع الأديب فارس يواكيم إلى الوقوف على أحد أهمّ المتون الشعرية الغميسة في هذه العاطفة الملتهبة، المعذِّبةُ والمحيّرة، التاعَ فيها الذكور والإناث، الخاصُّ والعام، والشعراء سادتُها شعرُهم بها بركان.
عنده وقف الكاتب والناقد والمترجم يواكيم لينقل إلى العربية واحداً من أغنى ما كُتب شعراً في هذه العاطفة الجيّاشة، ديوانه "عيون إلسا"، ديوانه الأساس بين ستة دواوين أخرى منها "مجنون إلسا"، "إلسا"...
نعم، سُبق إلى هذا بمحاولات ركيكة وجافة لم تنقل عمق التجربة، العاصفة الأرغونية المشبوبة للكائن المحبوب، وبالقالب الرؤيوي الفني المصبوبة فيه؛ فأراد هو أن يسبح من جديد في يمٍّ التجربة فماذا فعل؟
لنذكِّر بأن أي ترجمة للشعر هي مغامرة بلغت عند مختصين ذُرى الاستحالة. عد العالم اللساني ياكوبسون (1896ـ1982): "الشعر، بالتعريف، غير قابل للترجمة، الممكن هو النقل الإبداعي"؛ أبعد منه في إعلاء تمنُّع الشعر الكاتب الجامع موريس بلانشو (1907ـ2003) في قوله: "إن معنى الشعر لا ينفصل عن جميع الكلمات، جميع نبرات القصيد وحركاته. لن يوجد إلا داخل هذا المجموع، ويختفي بمجرد ما نفصله عن الشكل الذي أخذه".
نظن أن بلانشو استلهم هذه الفكرة من الشاعر بول فاليري (1871ـ1945) في نظره الثاقب الى أن"الشعر هو تردّدٌ مستدامٌ بين الصوت والمعنى"، ناهيك بالعبارة الإيطالية المأثورة بهذا المعنى تقول: "الترجمة خيانة" أصلها: Traduttore,traditor، أو "المترجم خائن". وأقول تكاد أن تصبح خيانةً ضرورة ومحمودة إذ تفتح للبشرية آفاق الاطلاع على إبداعاتها وثقافاتها والتعارف والتواصل.
واعٍ بهذه الصعاب، شبه متحدٍّ لها، وضع المترجم اللبناني مزدوج اللغة مقدمة لترجمته المغامرة شرح فيها عناصر عروضية وايقاعية وبلاغية ومرجعية تاريخية ثقافية للتغلب على عوائق شتى صادفته وكيف حاول تطويعها، ربما ليعذره القارئ إن لاحظ خيانة للنص الأصل. قبل تدقيق هذا، ننبه الى أن يواكيم اختار ما اعتبره القصيد الأشهر لأراغون في الذائقة العربية.
معلوم أن لكل مترجم ما يبرر اختياره ويسنده، أضيف إليه في حالة "عيون إلزا" أنها جامعة متعددة البعد، بطبقات وتوليفات متواشجة مع الحضارات والتاريخ والثقافات والسيرة النضالية تتناص مع مرجعيات، وتصدح بأصوات يجعل منها ديواناً كثيفاً مجراه الثابت الموّار فيه هو عاطفة من نحو إلزا، ومرسَل إليه هي، من استهلال يدشن مساراً جبليّاً بشعاب ويرفع فوق قمته علم الغرام: "عيناك ما أعمقهما حين انحنيت لأشرب/ رأيت فيهما الشموس جميعاً جاءت تتمرّى/ وكل اليائسين يرتمون فيها منتحرين/ عيناك ما أعمقهما.. فيهما أفقد الذاكرة"، وانتهاءً بآخر قصيدة في الديوان" نظرة رانسية" بخاتمة الاستسلام سبقه إليها أبو تمام (ت 845): "نقِل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب إلا للحبيب الأول" يعترف: "ليس لحبي سوى اسم واحد"، هي إلزا، بداهة!
اختار يواكيم ترجمة النص المركّب والصّعب، وطبيعي أن يتفاوت مستوى النقل ليفيَ مكوناته الأصلية لغوية ووزنية إيقاعية وبلاغية وتضمينية، متحاشيا ما أمكن الحرْفية ومحافظاً على البنية الشعرية والملاءمة بين خصوصية لغتين وهذا من معضلات الترجمة. لو اختار قصائد أخرى (إلزا) مثلًا لجاءت أرقّ بإصاتيتها الغنائية ولوعتها العاطفية ومحورية حضور المحبوب، وهذا اختياره مُهدى إلى القراء في عيد الحب ليس أجمل من الشعر قبلةً نتبادلها فيه.