معرض كريستين كتّاني في "غاليري جانين ربيز": انهيار اليقين

 منصور الهبر

نقع في "العلبة المنحوتة"، وهي تجميع لمواد مختلفة، على كمية من العملة الورقية اللبنانية، تجثم داخل المجسم الأبيض. يدوياً تعمل فتدور الأوراق النقدية ويدوي صوتها مؤذناً بولادة عالم الصناعة والمال والفساد وارتداداته على سبل تفكيرنا وعيشنا اليوم. تحملنا العملة في دورتها السريعة الى سوق المال والتضخم الاقتصادي، في قصة ابتكرتها الفنانة يمكن قراءتها مثل كتاب رسوم متحركة نقلّب صفحاته كما نفعل مع العملة الورقية. 

تصمم كريستين كتّاني منجزاتها بالعقلانية الحادة، وتغلق الباب على المنحى القديم الذي تتصدره "اللوحة". البريق في المعرض الحالي (من 5 شباط إلى 5 آذار) يعود الى فهم صاحبة الأعمال لمفهوم الفن المعاصر كـ"نوع" يختلف عن الفن الحديث او الكلاسيكي. في كلام مقتضب، لا تلجأ الفنانة الى اختبار قواعد التصوير كضرورة للتعبير فقط عما في داخلها كما في الفن الحديث، ولا تعمل وفق قواعد اكاديمية بأدوات تقليدية، بل على العكس من ذلك. فهي ليست وسط محترفها، بل في وسط الأزمة. اعمالها ولدت في سياق الانهيار الاقتصادي والفساد والحرب، حيث تنهار اسس الحياة من مال وخبز وبيوت. 

عندما تنخفض قيمة العملة الوطنية ويبدأ العدوان والتهجير والتدمير، لا يعود الخبز قوتاً ولا المال ذا قيمة ولا البيت اماناً. تنظر كريستين كتانة الى العمارة الاجتماعية اللبنانية بتحولاتها الدرامية والى الاضطراب السياسي وسط انهيار اليقين كنقطة ارتكاز ودعامة للمعرفة ومبرر للحقيقة. 

تقرن كتّاني بمرونة بين الفن والتكنولوجيا (تصويرا وصوتا ومونتاجا)، فالشاشة التلفزيونية امتداد للوحة التقليدية. وهي استوحت "بيت، بات، يبيت"، فيما كانت تقتلع الدبابيس من خشب اللوحة، فظهرت كلمة "بيت" دبابيس مقتلعة كما اقتلعتنا حروب التهجير. البيت/الوطن يخرج من معناه كمأوى وانتماء، ليتحول الى ذكرى وفراغ غير ملموس.

التزام كريستين كتّاني الفن المفهومي الحاحٌ منها وبحث فني عن المعنى خارج القوالب المعهودة، بل هو فن يقاوم دون خوف وخارج النماذج التى تفرضها الموضة الفنية وقيم السوق المزورة وسيطرة المال. تفصح الفنانة، اليوم، ان الفن هو مكان الوعي بالعالم ودعوة مستمرة للعودة الى الحقيقة- الحقيقة. الفن وعي، ابتكار... وقطيعة مع ما سبق.