نازك سابا يارد بين الغياب الجسدي والحضور الروائي!

ثقافة 31-01-2025 | 15:26

نازك سابا يارد بين الغياب الجسدي والحضور الروائي!

عن سبعة وتسعين عاماً، رحلت في بيروت الأديبة اللبنانية/ الفلسطينة نازك سابا يارد، بعدما سئمت تكاليف حياة، عاشتها حتى الثمالة، طالبة ومعلمة وأكاديمية وروائية وباحثة وناشطة نسائية، ووضعت بصمتها على كلٍّ من هذه الأبعاد المتنوعة في الشخصية الواحدة، 
نازك سابا يارد بين الغياب الجسدي والحضور الروائي!
نازك سابا يارد
Smaller Bigger

عن سبعة وتسعين عاماً، رحلت في بيروت الأديبة اللبنانية/ الفلسطينة نازك سابا يارد، بعدما سئمت تكاليف حياة، عاشتها حتى الثمالة، طالبة ومعلمة وأكاديمية وروائية وباحثة وناشطة نسائية، ووضعت بصمتها على كلٍّ من هذه الأبعاد المتنوعة في الشخصية الواحدة، وكتبت في حقول معرفية مختلفة، وحقّقت عدداً من الكتب، وقدّمت لعددٍ آخر منها، وتمخّض حصادها عن ثمانية وعشرين كتاباً، تتوزّع على: تسع روايات للبالغين، خمس روايات للناشئين، وأربعة عشر كتاباً في البحث الأكاديمي والنقد الأدبي والسيرة الذاتية والتحقيق والتقديم، ناهيك بعشرات المقالات المنشورة في الصحف والمجلات، ما يشكّل إرثاً فكرياً متنوعاً، ويعكس حيوية ثقافية واضحة لازمتها حتى مرحلة متأخرة من العمر، فأصدرت روايتها الأخيرة "فقدان" عام 2018، وهي في التسعين من العمر، بينما كانت قد صدرت روايتها الأولى "نقطة الدائرة" عام 1983، ولها من العمر خمسة وخمسون عاماً، ما يعني أنها تأخرت في البداية والنهاية، على أن هذا التأخر لم يحل دون أن تشغل موقعها المستحق على خريطة الرواية اللبنانية والعربية.

 

 اهتمامات متعددة
  ولدت نازك سابا يارد في القدس عام 1928، لأب فلسطيني هو اسكندر سابا، وأم لبنانية هي حلا معلوف. وتلقّت دروسها تباعاً في المدرسة الألمانية في القدس، مدرسة راهبات مار يوسف الظهور، جامعة فؤاد الأول في القاهرة، والجامعة الأميركية في بيروت، حيث توّجت حياتها الدراسية بنيل شهادة الدكتوراه من هذه الأخيرة. 
تقلّبت في التدريس بين مدرسة مصرية خلال دراستها في القاهرة، والكلية الإنجيلية الفرنسية في بيروت، والجامعة اللبنانية الأميركية، وكان لها تأثيرها في التلاميذ والطلاب في هذه المؤسّسات، سواء من خلال التدريس المباشر أو من خلال نصوصها المنشورة في كتب القراءة العربية المخصصة للحلقتين الثانية والثالثة من مرحلة التعليم العام في لبنان. 
 على تعدد اهتمامات يارد وتنوّعها، تدريساً وبحثاً وأدباً ونقداً وتحقيقاً وتقديماً ونشاطاً نسائياً، يشكّل نتاجها الروائي الاهتمام الأبرز بين تلك الاهتمامات، وهو ما تعكسه الروايات التسع المخصصة للبالغين والروايات الخمس المخصصة للناشئين. وبمعزل عن الفئة العمرية التي تتوجه إليها، تقوم يارد برصد وقائع الواقع بتحولاته المختلفة، لا سيما الاجتماعية منها، وتعيد إنتاجها روائياً، فتصيب بذلك عصفوري الفائدة والمتعة بحجر واحد. وتحجز لنفسها المكان الذي تستحق في جغرافية الرواية اللبنانية والعربية. وحسبناً، في هذه العجالة، إلقاء الضوء على بعض رواياتها، كي نثبت التنظير بالتطبيق، ونقرن القول بالفعل.
  العلاقات الأسرية
  في "الذكريات الملغاة"، تتناول يارد الحرب اللبنانية وتداعياتها على الأسرة اللبنانية، ما يؤدي إلى تفككها وتصدّع العلاقات بين أفرادها، في كثير من الأحيان. 
وهي تفعل ذلك، من خلال رصد العلاقة بين بطلي الرواية، شريف وهدى، وتحوّلاتها المختلفة، بدءاً من التعارف على مقاعد الدراسة، مروراً بالرؤية الموحّدة للأمور، والإعجاب المتبادل، والحب، والزواج، وانتهاءً بالتباين في الرؤية إلى الأمور، فالانفصال، فالتفكك. 
فعلى رغم العلاقة الوثيقة بين البطلين القائمة على الإعجاب والحب والقيم المشتركة، تلقي وقائع الحرب الثقيلة بتداعياتها على هذه العلاقة، وتؤدّي إلى انقطاعها؛ ذلك أنّ الحرب وما تمخّضت عنه من ضرب الطبقة الوسطى، وتدنّي مستوى المعيشة، واختلال سلّم القيم، وصعود فئة من الوصوليين المتملّقين، تجعل شريف يتردّى في الإحباط واليأس، وتجعل هدى في حالة من عدم الرضى والتبرّم بواقع الحال، حتى إذا ما اختارت العمل ومتابعة الدراسة، في محاولة منها لتحمّل أعباء الأسرة، تصطدم برفض شريف خيارها، متذرّعاً بأنه يشكل إهانة له، وانتقاصاً من قدره، وإهمالاً له ولابنته دينا، ما يُصدّر عن عقلية ذكورية تقليدية، تحصر دور المرأة بالعمل المنزلي، بينما تحاول هدى بخيارها زيادة دخل الأسرة، وتحسين وضعها الاجتماعي، وتُصدّر عن عقلية منفتحة، ما يُشكّل بداية خلاف بينهما، تكون له نتائجه المدمّرة على وحدة الأسرة. 
ففي غمرة الصراع بين العقليتين، يغيب الحوار الهادئ الموضوعي بين الشريكين، وتشتعل المشاحنات بينهما، فينفصلان أحدهما عن الآخر، وتدفع الابنة دينا ثمن هذا الانفصال، فيتمّ سلخها عن أمّها طفلةً تطبيقاً لقانون ذكوري جائر، وينسلخ عنها الأب صبيّةً، ويصبح من الصعوبة بمكان لمّ شمل الأسرة مجدّداً.

 

  العلاقات الاجتماعية
 وإذا كانت يارد في هذه الرواية تتناول العلاقات ضمن الأسرة الواحدة ومآلاتها في زمن الحرب، فإنّها في رواية "الأقنعة" تتناول العلاقات ضمن المجتمع الواحد، على تعدّد أطرافها، وتنوّع أنماطها، مميّزةً بين ما يطفو على السطح منها، وما يتوارى خلف الأقنعة الكاذبة. وهي تفعل ذلك، من خلال رصد العلاقات داخل شريحة اجتماعية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، تلك التي تراوح بين الصداقة والحب والوفاء والخيانة والكذب والنفاق وغيرها. 
  هي الحياة الاجتماعية بتشابكها وتعقيداتها، بوجوهها الحقيقية وأقنعتها الكاذبة، تعيد يارد إنتاجها روائياً. ونتعرّف، من خلال هذا الإنتاج، إلى منظومتي قيم مختلفتين تنظمان العلاقات في الطبقة المتوسطة، إحداهما تنتمي إلى عالم المثل والقيم الإيجابية، وتمثّلها في الرواية: نادية الأم، وسمية الابنة، ومهى الصديقة القديمة، وأم جابر مدبّرة المنزل. المنظومة الأخرى تنتمي إلى الواقع الفظّ والقيم السلبية، ويمثّلها سامر الابن، ونجوى العشيقة، وسلوى الزوجة، ولطفي صديقها، وزياد زوج مهى. 
والعلاقات بين هذه الشخوص هي، بشكل أو بآخر، نتاج الاصطدام بين هاتين المنظومتين. بعض الشخوص باطنها ظاهرها، ووجوهها أقنعتها. وبعضها الآخر يعيش ازدواجية بين الباطن والظاهر، بين الوجوه والأقنعة. 
  في المنظومة الأولى، يطفو على السطح: الإخلاص الزوجي في الحياة والممات مع الزوجة نادية، برّ الوالدة والوفاء للصديقات مع الابنة سمية، حدب الأمومة مع الأم مهى، والصبر على المكاره مع مدبّرة المنزل أم جابر. وفي المنظومة الثانية، يتوارى خلف الأقنعة: عقوق الأبناء والخيانة الزوجية مع سامر، هوس الاقتناء وإهمال الأولاد وتجاهل الخيانة مع سلوى ونجوى، وتعدّد العلاقات الغرامية مع زياد. على أنّ سقوط الأقنعة تباعاً ينقل بعض الشخوص من الوهم المريح إلى الحقيقة المرّة، ويعيد إليها وجوهها الحقيقية، فتتصالح مع أنفسها بعد طول خصام.

 

 لعنة المرأة
  ولا يقتصر اهتمام يارد الروائي على الأسرة والمجتمع فحسب بل يتعداهما إلى موقع المرأة في هذين الإطارين، في رواية "اللعنة" التي تتناول فيها العلاقة غير المتكافئة بين الرجل والمرأة في المجتمع الذكوري، حيث الرجل هو الطرف الأقوى فيها، سواءٌ أكان أباً أم أخاً أم زوجاً، والمرأة هي الطرف الأضعف سواءٌ كانت أماً أم أختاً أم زوجة. 
وغالباً ما يصبّ الأقوى اللعنة على الأضعف، ويحمّله تبعات الأخطاء المشتركة بمعزل عن درجة مسؤولية كل منهما عنها. وهو ما نجد ترجمته في "اللعنة" من خلال حكاية سلمى، ابنة السابعة عشرة، التي يُشكّل موت أمّها، وهي لم تتعدّ الرابعة عشرة من العمر، زلزالاً تكون له تردّداته المدمّرة عليها حتى مرحلة متقدّمة من حياتها. وفي هذه التردّدات: الأب يحرمها متابعة الدراسة لعجز مالي. الخال يغتصبها ويُكرِهها على علاقة معه. الأب يُكرِهها على الزواج من رجل عائل يكبرها عمراً. الإبن البكر لأسرة مخدومها يتحرّش بها جنسياً فتحمل منه. الأب يتبرّأ منها. وهكذا، يتضافر عليها قدر غاشم، وقربى ظالمة، ومجتمع ذكوري، وجمال أخّاذ.
 غير أنّ هذه التردّدات الزلزالية، الناجمة عن موت الأم في توقيت غير مناسب، لا تفتّ في عضدها، فتقاوم اللعنة، في تمظهراتها المختلفة، بآليّات معيّنة. منها: رفضها الزواج من رجل عائل. رفضها الإجهاض والتخلّي عن ابنها غير الشرعي. إدخاله مدرسة داخلية. إلحاقه بالجامعة اللبنانية. تشجيعه على التخصّص في الولايات المتحدة الأميركية ويتخرّج بنتيجته طبيباً ناجحاً.   وهكذا، استطاعت سلمى، الابنة "الملعونة"، أن تحوّل اللعنة إلى فرصة الحلم، وأن تحقّق بإبنها ما منعها الظلم من تحقيقه بنفسها. وبذلك، تراهن على المرأة، في روايتها، وتكسب الرهان.
   وَعَوْدٌ على بدء، إن غياب يارد الجسدي لن ينتقص من حضورها الروائي، وهو ما تمثّله الروايات الآنفة الذكر وسواها. وستبقى حاضرة في رواياتها وكتبها وبحوثها ومقالاتها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

ثقافة 10/17/2025 6:10:00 AM
تُعدّ المقاهي الشعبية البيروتية مرآة دقيقة لتحوّلات المشهد الاجتماعي والثقافي للمدينة (1950–1970).
ثقافة 10/17/2025 6:15:00 AM
هذا المشروب الساحر لا يمكن تخيّله منفصلًا عن الشعور بالمشاركة وتحسين المزاج والحب.
ثقافة 10/17/2025 6:17:00 AM
المقهى.. أكثر من مجرد قهوة: تجربة حياة كاملة
ثقافة 10/17/2025 6:12:00 AM
كان الـ "هورس شو" في بناية المرّ قاطرة القافلة التي ضمت مقاهي الـ "إكسبرس" في بناية صباغ، و"مانهاتن" في بناية فرح، ثم مقاهي "نيغرسكو" و"ستراند" و"الدورادو" و"كافيه دو باري" و"مودكا" و"ويمبي" وغيرها.