وداعاً أحمد عدويّة... أسطورة الأغنية الشعبيّة
أحمد عدوية
Smaller Bigger


بينما كانت أمّ كلثوم تغنّي في آخر حفلاتها: "ليلة حب" و"القلب يعشق كلّ جميل"، وتُسدل الستار، كان عدوية يصعد في ملاهي شارع الهرم ويغنّي: "السح الدح إمبو".
إنّها لحظة تاريخية فارقة، بين عصري عبد الناصر والسادات، الاشتراكية والرأسمالية، قصائد شوقي ومواويل حسن أبو عتمان، الجمهور "الرسمي" متذوّق "الفن الرفيع"، والجمهور "الشعبي" الذي يتقافز حول المغنّي. صرامة الانضباط "الكلثومي" مقابل عفوية الارتجال "العدوي".
شتّان ما بين "الدخول بالملابس الرسمية"، وفوضى "الكباريهات" وعري الراقصة المصاحبة، وبين التأليف الموسيقي والإيقاعات الخفيفة. نقلة من السمّيعة وكبار الموظفين إلى الأثرياء الجدد.
ليس ثمّة تأريخ لمئة عام من الفنّ والثقافة في مصر إلّا عبر المقارنة بين أكبر ظاهرتين في تاريخ الأغنية: أم كلثوم التي افتتحت القرن العشرين، وعدوية الذي ختم هذا القرن، حيث علقت باسمه وشخصه وتجربته ظواهر لم تتكرّر مع أيّ مطرب شعبي آخر، سنحاول في ما يأتي رصدها.

المجد للهامش
ولد عدوية في المنيا (جنوب مصر) صيف العام 1945 من أب يعمل تاجرًا للمواشي، ووسط عدد كبير من الأشقاء. على عكس أم كلثوم التي ولدت في السنبلاوين (شمال مصر) من أب مؤذّن في مسجد القرية وليس لديها سوى أخت وأخ.
في لحظة ولادته كانت "الست" تعيش عصرها الذهبي وتتوّج من الملك بلقب "صاحبة العصمة" (يعادل لقب باشا للرجال).
ولو قارنا بدايات الاثنين: ارتبطتْ سومة في نشأتها بالثقافة الدينية وظلت ممثلة لها، حتى حينما جاءت إلى القاهرة وغنت في بعض الصالات، سعت للارتقاء بالأغنية وتكوين "تخت" شرقي راق.
بينما عدوية ارتبط بالأفراح الشعبية، وشارع محمد علي (شارع العوالم)، بعيدًا عن أيّ ثقافة دينية، وكان الغناء بالنسبة إليه مجرّد "نمرة" يؤديها في فرح أو ملهى ليلي.
عبر  تاريخ أم كلثوم عن التصوّر الرسمي للغناء، وتمثيل مؤسساته المعتمدة مثل لجنة الاستماع في الإذاعة، أمّا عدوية فأصبح الممثل الشرعي للتصوّر غير الرسمي.
صحيح كان ثمّة تاريخ للأغنية الشعبية المعبرة عن الناس، في الأفراح والأحزان، ومواويل وإنشاد ديني، لكنّ وسائل الإعلام لم تكن تبالي بممثلي هذا التيار، ونادرًا ما يسمح له بالظهور في الإذاعة والتلفزيون، أو حتى يخضع للدراسة في المعاهد المتخصصة، كأنه تيار موصوم فنيًا وأخلاقيًا. بل سعت الدولة إلى تبنّي أغنية شعبية منضبطة وخاضعة للأعراف الرسمية مثلها محمد عبد المطلب ومحمد رشدي ومحمد قنديل وغيرهم.
لكن عدوية لم يكن ينتمي لأيّ تصورات رسمية سواء الكلاسيكية أو الشعبية، بل كان أقرب إلى نبتة برية تزامن بزوغها مع تحوّلات اجتماعية وسياسية عميقة في عهد السادات، حيث تراجع الاهتمام الرسمي بالثقافة، وتقدّم تيار الإسلام السياسي وخفّت قبضة الرقابة على الغناء.
ما يجعل عدوية مختلفًا، ليس أنّه جرى تقليده والتأثّر به، كما في تجارب حكيم وحسن الأسمر وشعبان عبد الرحيم ورمضان البرنس، وإنّما لأنّه منح الصدارة للهامش، بدليل أنّ عبد الحليم (مطرب ثورة يوليو العاطفي)  أدّى أغنيته "السح الدح إمبو".

عصر الكاسيت
انتمت الظاهرة الكلثومية إلى عصر الأسطوانات و"الفونوغراف"، بينما انتمى عدوية إلى عصر الكاسيت، وانتقلت تجربة السماع من عموميتها وحسّ المشاركة، إلى الخصوصية والفردانية، فكلّ شخص يشتري الكاسيت ويستمع إليه وحده. ونشطت أدوات كثيرة روّجت عصر الكاسيت، مثل سائقي التاكسي والميكروباص.
وأفادت ظاهرة الكاسيت كلّ نجوم الغناء بلا استثناء، لكن يظلّ أكبر معبرين عن الظاهرة، والأكثر رواجًا، هما أحمد عدوية الذي فرض نفسه "رقمًا صعبًا". أمّا الآخر فهو الشيخ كشك بخطبه النارية والتي كانت تُعبّأ فورًا في أشرطة، ورصد نجومية الاثنين الكاتب الصحافي محمد الباز في كتابه "كشك وعدوية: أيام الوعظ والسلطنة".
بعيدًا عن أيّ حكم قيمي يُعتبر الرجلان رمزًا لانحطاط الذوق، فالمؤكّد أنّهما كانا أكبر ظاهرتين شعبيّتين مثيرتين للجدل، في عصر الكاسيت، وتكفي الإشارة إلى أنّ شريط "السح الدح إمبو" باع مليون نسخة فور صدوره مطلع السبعينات.

 

سينما المقاولات
رغم موهبته التمثيلية المحدودة جدًا ظهر عدوية في حوالي ثلاثين فيلماً، لاستغلال شهرته، وغالبًا كان يمثّل دور "عدوية" نفسه ويؤدّي "نمرة" أو موالًا، بمصاحبة إحدى الراقصات.
ومن أشهر أفلامه: نص دستة مجانين، مطلوب حيًا أو ميتًا، يا رب ولد، المتسول، 4-2-4، والبنات عايزة إيه. وفيها كان أقرب إلى ضيف شرف، بجلبابه المميز، وخفّة ظلّ ابن البلد، وطبيعة الأفلام نفسها أقرب إلى الكوميديا الخفيفة أو ما عُرف باسم "سينما المقاولات" لتعبئة شرائط الفيديو، حيث لا يتطلّب الأمر قصّة محكمة، ولا حساسية كاميرا ولا أداء تمثيليّاً، وإنما حالة بصرية ركيكة ومضحكة.

نصّ ثقافيّ
أصبح عدوية نصًا ثقافيًا مفتوحًا على تضارب التأويل، وهي مكانة لم ينلها مطرب شعبي غيره، فأفلام الواقعية الجديدة تشير إليه كعلامة على تحوّلات السبعينات، وإن لم يحضر بنفسه، حضرت أغانيه الشهيرة ورقصت عليها عشرات الراقصات في أفلام جادة وهزلية، وأشهرها أغنيات: السح الدح إمبو، زحمة يا دنيا زحمة، سلامتها أم حسن، شاطرة وشطورة، حبّة فوق وحبة تحت، بنت السلطان، يا ليل يا باشا يا ليل، على كوبري عباس، سيب وأنا سيب، وكركشندي دبح كبشه.
فرض "عدوية" نفسه كنقطة اشتباك بين تيارات ثقافية متصارعة، فبينما نجيب محفوظ الليبرالي دافع عن اللون الشعبي الذي يمثله، اتخذ اليسار ومعظم المثقفين موقفًا مناهضًا، كما فعل مصطفى محمود حين وصف صوته بأنّه "فحيح ذكر البط"، وصلاح عيسى عبر مقاله "طه حسين في عصر أحمد عدوية"، وعبد العال الحمامصي في  مجموعته القصصية "أحمد عدوية وأشياء أخرى"، ولا ننسى صرخة يحيى الفخراني في فيلم "خرج ولم يعد" وهو يصيح وسط الحقول: "جايلك يا مصر.. جايلك يا أحمد يا عدوية!"
الملاحظ هنا اتفاق اليسار واليمين الإسلامي المتشدّد ضدّ أم كلثوم، وضدّ عدوية معًا، رغم تناقض مرجعية التيارين! وانضمّت إليهما مؤسسات رسمية مثل منظمة الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكي التي وزّعت منشورات تهاجم أغانيه، ووزير الإعلام الشهير عبد القادر حاتم الذي حذّر من "ظاهرة عدوية" وشكّل لجنة مهمّتها مكافحة تلك "الظاهرة"، كما أحيل منتصف الثمانينات إلى بوليس الآداب!
ولعلّ أفضل تعبير عن ذلك الانشقاق مقولة الموسيقار عبد الوهاب بأنّ عدوية هو المطرب الذي يسمعه المهمّشون في العلن، والمثقّفون في الخفاء!
فنيًا ظلّ متربعًا على القمة لعقدين، وكان حريصًا على الاستعانة بقامات إبداعية كبيرة مثل بليغ حمدي وسيد مكاوي ومأمون الشناوي، وصلاح جاهين، وحسن أبو السعود، وإن كانت تجربته تدين بالأساس للشاعر الشعبي حسن أبو عتمان (1929 ـ 1990) العامل في مصانع الغزل والنسيج في المحلّة، والذي منح عدوية مذاقًا شعبيًا فريدًا و"تعابير" مبتكرة وكتب له أشهر أغانيه.
على مستوى المواويل تأثّر عدوية بفنانين شعبيين مثل أنور العسكري، وعبده الإسكندراني، لكنّه أثبت أنّه أحد سلاطين الموال الكبار بحساسية أدائه وجمال صوته.
نهاية قبل الأوان
في صيف 1989 تعرّض عدوية لحادث مأساوي اتُّهمت فيه شخصية بارزة، ونشر الكاتب أحمد ناجي تحقيقًا استقصائيًا عمّا حدث، حيث دخل في غيبوبة وعجز عن الحركة وشبه تدمير لجهازه العصبي، وظلّ لشهور غائبًا عن الوعي، قبل أن يستجيب للعلاج ببطء، واستغرق الأمر نحو أربع سنوات، قبل أن يعود مصابًا بالتواء في فكّه، وضعف في الحركة، والسمنة، لتكتب نهاية مبكرة له وهو بالكاد تجاوز الأربعين.
طوال ثلاثين عامًا اقتصر حضوره على الظهور في البرامج الفنية وأداء بعض المقاطع، وربما التجربة الوحيدة التي قدّمها بعد نجاته، كانت دويتو "الناس الرايقة" مع رامي عياش، وبعض الأعمال مع ابنه محمد.
خلال محنته الطويلة انفضّ عنه الرفاق والنجوم والأضواء والثراء، باستثناء مساندة بعض زملائه مثل فيفي عبده، وبسالة شريكة عمره "نوسة" التي ظلّت سندًا لسنوات طويلة، وللأسف سبقته إلى الموت قبل شهور قليلة، فازداد جسده وهنًا، وأدرك أنّها النهاية.
لعلّها رحمة الله به ألّا يتعذب في مرضه وكبره ويلحق سريعًا بالمرأة التي أفنت شبابها في رعايته.
وبرغم أن الحادث المأساوي أبعده عن الفن مبكرًا جدًا، وأنّه في مجمل مشواره كان شبه "ممنوع" من التلفزيون والإذاعة، لكنّ عدوية صنع أسطورته الخاصة التي فرضت نفسها على الجميع.

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟